في كتابه (بيع اللامرئي) لمؤلفه هاري بيكوث ذكر مقولة عظيمة الأهمية لحكيم صيني مفادها (أن أقوى استراتيجية تستخدم في الحرب هي استراتيجية تحقيق الانتصار دون قتال)، واستخدم هاري بيكوث هذه المقولة للتدليل على واحد من أخطر الاستراتيجيات التنافسية، وهي استراتيجية استهداف أسواق لا يخدمها المنافسون، وقدّم لنا مثالاً على ذلك لمحلات وول مارت التي تعمل في مجال تجارة التجزئة؛ فصاحب هذه المحلات، وهو الرجل المشهور سام والتون، كان يستهدف المدن الصغيرة ويقوم بفتح فروع لمحلاته فيها، على اعتبار أن هذه المدن لا تلقى اهتماماً من الشركات الكبيرة العاملة في نفس المجال، وبالفعل انطلق سام والتون من المدن الصغيرة، وبدأ بفرع واحد في مدينة روجرز بولاية أركنساس، ليتوسع بعد ذلك في العديد من المدن الصغيرة ويبني علامة تجارية متميزة ويحقق أرباحاً طائلة، ومن خلال شهرته في المدن الصغيرة يتوسع ويخترق المدن الكبيرة، وعندما توفِّي سام والتون كانت متاجره تتألق في 43 ولاية أمريكية وتحقق دخلاً سنوياً يقدَّر بنحو 80 مليار دولار.
الحقيقة أن هذه الاستراتيجية غائبة إلى حدّ كبير في أسواقنا، والسبب هو تفشي ظاهرة (غريزة القطيع) في السوق، فنجد أنه بمجرد ما يحقق مستثمر أو تحقق شركة أو مؤسسة مكاسب في سوق ما سرعان ما يتجه الكثيرون نحو هذا السوق ليشهد هذا السوق كماً كبيراً من العرض يفوق الطلب، ومن ثم تتوالى فصول القصة المكررة؛ حيث تتفتت المكاسب وتتناقص الأرباح ويخرج كل مَن لا يمتلك الخبرة الكافية أو القدرة على تقديم جديد في السوق. هناك عدة أسباب تكمن وراء تفشي تلك الظاهرة: الرغبة في تحقيق مكاسب سريعة بأقل قدر من التكلفة، وافتقاد النظرة الشاملة وافتقاد القدرة على رصد الفرص التسويقية المتاحة في أسواق متعددة، وعدم التحديد الدقيق لفئات العملاء التي يمكن أن تستفيد من منتجاتنا، وعدم السعي إلى تجميع معلومات بشأن متطلبات الكثير من الأسواق، وممارسة نشاط التسويق بمنطق الهواة أو بطريقة التجربة والخطأ دون محاولة لتعلم قواعد التسويق ومبادئه الأساسية، وغياب الثقافة التي تؤكد أن التسويق علم وفن مثله مثل أي وظيفة إدارية أخرى، غياب دور العلم في المعرفة بقواعد التسويق واستراتيجياته ودور الفن في القدرة على الإبداع وتطبيق أفكار جديدة تتعلق بالمنتجات أو بالخدمات أو بالأسواق المستهدفة. كلّ هذه الأسباب تجعلنا نتوجه بقوة إلى أسواق يتوجه إليها الجميع، ونهمل أسواقاً يتجاهلها الجميع، لتكون النهاية هي أن يخسر الجميع وتظلّ الأسواق غير المشبعة غير مشبعة حتى حين.