إن طرح موضوع البحث العلمي وتوطين التقنية مطلب ملح لأي أمة تستشرف ملامح المستقبل وتضع خطط تنميتها نصب عينيها. لقد مرَّت المملكة العربية السعودية بمراحل انتقالية في زمن قياسي يعدُّ قصيراً بميزان عمر الدول والأمم التي سبقتنا في التطور التقني والتقدم العلمي، وكان الاهتمام حينها منصباً على إقامة البنية التحتية ودفع عجلة التعليم وإنشاء المرافق والخدمات الأساسية ورفع مستوى المعيشة، وكان طرح دعم حركة البحث العلمي وتوطين التقنية يعدُّ ترفاً - أو على الأقل سابقاً لأوانه - في مجتمع ما زال يتلمس خطوات التحديث ويشعر بفجوة كبيرة بينه وبين ما وصلت إليه دول أخرى من نهضة صناعية وتقدُّم تقني وحركة دؤوبة لاستكشاف الجديد وتشجيع الاختراع.
إن القصور الحاصل في دعم برامج وخطط البحث العلمي وتفعيل ثقافة توطين التقنية - وليس استهلاكها - قد يكون مفهوماً في فترة سابقة كان المجتمع فيها فتياً يحتاج إلى مَن يأخذ بيده ويوجِّهه ويضع له أولويات البناء ويتلمس له طريق المستقبل، أما وقد خطى المجتمع خطوات حثيثة نحو تأهيل القدرات البشرية ورفع مستوى برامج الجامعات واستقدام الخبرات وتشجيع حضور اللقاءات العلمية ومشاركة العالم الخارجي المتقدم فلا بدَّ من إعادة النظر في مدى جديتنا في دعم البحث العلمي وجعله استثماراً مثمراً.
إن البحث العلمي لم يكن في يوم من الأيام خياراً لأي دولة تسعى بجدية إلى استقلالها ونمو اقتصادها ومعالجة مشكلاتها والنهوض بشعبها، والبحث العلمي لم يكن ترفاً - وإن عُدَّ كذلك في مجتمعنا في فترة انتقالية - لأي دولة تنافس في ميادين العلم والهندسة والطب. ولأضرب مثالاً بدولتين تفتقر كل منهما إلى الموارد الطبيعية الغنية، وتتسم كل منهما بقلة عدد سكانها وقصر تجربتها في العلوم والتقنية مقارنةً بالدول العظمى، وهما: سنغافورة وفنلندا. لقد رأت تلك الدولتان مفتاح نجاحهما في استثمار القدرات البشرية في دعم البحث العلمي وتوطين التقنية، فوضعتا برامج محدَّدة الأهداف، وتم إشراك القطاع الخاص في البحث والتطوير (R AND D)، فكانت النتيجة تقدُّماً ملحوظاً واقتصاداً مزدهراً. ولأدعم القارئ ببعض الإحصائيات البسيطة ليتبيَّن مغزى كلامي ومراد مقالي؛ فعدد السكان في كل من الدولتين لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كل منهما يفوق أو يقارب نصيب الفرد في كل من بريطانيا وفرنسا، وتنفق كل من سنغافورة وفنلندا ما يقارب 2.5% و3.5% (على الترتيب) من الناتج المحلي الإجمالي على البحث والتطوير.
إن الاهتمام الذي ظهر في المملكة في الآونة الأخيرة بالتقنية متناهية الصغر (النانو) ومراكز التميُّز البحثي يجعلني متفائلاً بأن تكون هذه هي البداية لتغيير ثقافة المجتمع نحو البحث العلمي وتوطين التقنية. لقد آن الأوان أن نعلم أنه لا يمكن لنا أن نقف مكتوفي الأيدي نستجلب العلم من الآخرين ونستهلك تقنية تُصنع لنا في الخارج.
لقد كانت منحة خادم الحرمين الشريفين لدعم أبحاث تقنية النانو في ثلاث جامعات، ومبادرة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لإنشاء مركز لتقنية النانو بأرقى المواصفات، وتوطين التقنيات متناهية الصغر، والاستثمار في تدريب وتأهيل القدرات السعودية، ومراكز التميُّز البحثي في الجامعات من قبل وزارة التعليم العالي؛ بوادر مشرقة نأمل أن تؤتي ثمارها وأن تستغل خير استغلال؛ ليساهم ذلك في نمو البحث العلمي وشموله، ونرجو أن يستثمر هذا الدعم في مجالات مهمة في العلوم الأساسية والتطبيقية؛ مثل البتروكيماويات والمياه وإنتاج الطاقة واستكشاف الموارد الطبيعية وعلم المواد والتقنيات الحيوية والتشخيص والعلاج الطبي.
يجب على المتطلعين إلى ازدهار مجتمعنا ووقوفه منافساً للدول المتقدمة أن يعطوا البحث العلمي مكانته، وأن يستثمروا في بناء خبرات أبناء البلد في مجالات العلوم والتقنية؛ فالبحث العلمي وتوطين التقنية هما مفتاح التقدم والسبيل الوحيد للمساهمة في حلّ مشكلات المجتمع البيئية والصحية والاجتماعية وتحسين المستوى الاقتصادي للفرد وإيجاد فرص العمل والمنافسة في اقتصاد دولي تحكمه اتفاقيات التجارة العالمية؛ فالدول المتقدمة رأت في البحث العلمي والتطور التقني استثماراً اقتصادياً مربحاً يعود بالنفع المادي والمعنوي على أفراد المجتمع. لم يعُدْ خيار استيراد التقنية واستهلاكها هو الخيار الأمثل لدولة تضع استقلالها ورفاهية شعبها أمامها، وتسعى إلى تحقيقهما بما تملك من موارد طبيعية وقدرات بشرية. ولم تعد برامج البحث العلمي الضئيلة والمتناثرة في جامعات المملكة هي الحلّ، بل نحتاج إلى سياسة وطنية ونظرة استشرافية وبرامج محددة ومركزة، ونتطلع إلى دعم مادي لا يستخسر الاستثمار في بناء الإنسان وتوطين التقنية، وأن يتم إشراك طلاب وطالبات الجامعات في أنشطة البحث العلمي منذ مرحلة البكالوريوس، وأن تفعّل برامج الدراسات العليا في الجامعات، ونأمل أن تنبذ التعقيدات الإدارية، وأن يتم التحرر من أنظمة إدارية ومالية لا تخدم البحث العلمي وتوطين التقنية، بل تساهم في تأخُّرهما وإحباط المتحمسين من أصحاب الخبرة في المشاركة في رقيّ المجتمع ودفعه إلى مصافّ الدول المتقدمة.
جامعة الملك سعود