بدأت أغلب البلدان وبخاصة الخليجية منها في تطوير أسواقها المالية لتكون منافسة للأسواق العالمية والسعي الحثيث إلى استقطاب الخبرات العلمية للعمل بها من أجل فهم أعمق لآليات السوق وتعاملاته.
لكن يا ترى هل أسواقنا المالية الخليجية والسوق المالي السعودي تتصف بالكفاءة؟ المقصود بكفاءة السوق (Market Efficiency)، قدرتها على استيعاب كل المعلومات المالية المتاحة من جميع مصادرها والاستفادة منها واستغلالها في تحديد أسعار الأسهم والسندات المطروحة للتداول.
وبناء على هذا المفهوم من المتوقع أن تتجاذب أسعار الأسهم بشكل واضح لأي معلومة تصل إلى المتعاملين في السوق. وطبقاً لما هو حاصل في العادة فإن المتعاملين في السوق بينهم منافسة شديدة للحصول على هذه المعلومات واستثمارها وبذلك لا يتحقق لهم أي ميزة على الآخرين غير الأرباح العادية، وإن حصل مثل هذا الربح غير العادي فقد يكون مرجعه إلى السرعة في التصرف في الوقت المناسب وسرعة اتخاذ القرار الملائم أو إلى الصدفة. إضافة إلى ما سبق يتطلب عدم وجود فترة زمنية طويلة بين وصول المعلومة وتحليلها واتخاذ القرار وما قد يحمله من تأثير قوي على سعر السهم في السوق وبذلك تكون فرص المعلومات متاحة ومتساوية للجميع.
وسأسوق هنا بعض الملاحظات على السوق السعودية التي قد يتقاطع بعضها مع بعض أفكار الآخرين ومنها ما يلي:
* مجلس الهيئة: يتكون مجلس الهيئة من خمسة أعضاء متفرغين بما فيه الرئيس ونائب الرئيس وعضوية ثلاثة أعضاء، كما يحظر النظام عليهم شغل أي منصب أو وظيفة في أي شركة أو حكومة أو أي مؤسسة عامة أو خاصة كما يحضر عليهم المشورة للمؤسسات والشركات الخاصة. حقيقة الأمر لست أدري ما السر في ثلاثة أعضاء (بالتأكيد خلاف الرئيس ونائبه).. أليس رأي أفضل من رأيين؟.. ولم لا يكون هناك عشرة أعضاء مثلاً ممن يشهد لهم بالكفاءة والخبرة؟ بل لم لا يكونوا من خلفيات متنوعة مثلاً من الكوادر الجامعية المؤهلة بالعلم والخبرة، لأنهم من وجهة نظري الأقدر على قراءة أي قرار ودراسته دراسة متأنية من كافة جوانبه سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية.. بل وحتى قراراتهم تتصف بالشمولية والحيادية. فمثلاً بورصة نيويورك تتكون من عدد كبير من الأعضاء الذين يتم ترشيحهم بناء على قدرتهم المادية (ملكية الأوراق المالية من 50.000 دولار إلى 1.5 مليون دولار) ويحق لهم المشاركة في انتخاب الهيئة التنظيمية والرقابية ومجلس المحافظين، بالإضافة إلى ذلك ليس الملاءة المالية هي المحدد الأساسي للعضوية بل هناك الكثير من الشروط التي يضعها مجلس المحافظين لهذه العضوية، أعتقد أن مشاركة من لديه الملاءة المالية في سوقنا وله القدرة في التأثير على السوق خطوة جيدة بحيث يستفاد من إمكاناته وخبراته العملية إضافة إلى إحساسه بالانتماء لهذه المؤسسة ويكون لديه الحرص على رقيها وتطورها.
* من متابعتي للتحليلات المالية في بعض القنوات الفضائية والصحافة المحلية تصاب بالصدمة، فمن غارق في التشاؤم إلى مفرط في التفاؤل. البعض يطالب بإجراءات صارمة من قبل هيئة سوق المال تكشف عما يحمله في نفسه من عدم رغبة في الإصلاح، أي بمعنى آخر يطالب بأكثر مما تحمله السوق حتى ولو أدى هذا إلى جثو السوق على ركبتيه، بينما على النقيض تجد من يطالب الهيئة بعدم اتخاذ أي إجراء يدفع إلى تهدئة السوق وضبط مسيرته. فبورصة نيويورك للأوراق المالية مثلاً، تأسست تقريباً عام 1817م وفي عام 1921م تم إنشاء السوق الأمريكية بعد هذه البورصة.. وفي عام 1933م و1934م تم تنظيم قوانين سوق المال من أجل حماية الاستثمار والمستثمرين.. إذاً الدول المتقدمة قطعت شوطاً كبيراً حتى وصلت إلى ما وصلت إليه أسواقها المالية المتطورة.. بينما نحن ربما قد أصابنا نوع من الاستعجال قبل نضوج السوق وارتفاع الوعي الاستثماري، ومن المؤكد حصول بعض الهزات التي سوف تزيد من قوة السوق وصلابته (مع الأخذ بالاعتبار كل بلد وظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية).
* يطالب البعض بتعميق السوق بشكل واسع بطرح المزيد من الاكتتابات دونما قيد أو شرط، لأن التعميق من وجهة نظر هؤلاء يؤدي إلى زيادة المعروض من الأسهم وبالتالي فك مبدأ احتكار بعض المستثمرين ومن ثم التأثير على السوق.. من جانب قد يكون هذا الكلام صحيحاً إلى حد ما.. ومن جانب آخر قد يكون وبالاً على سوقنا الناشئ.. كيف؟.. نتفق جميعاً أن سوقنا ناشئ ومحدود مقارنة بغيره من الأسواق المتقدمة، فأي اكتتابات جديدة غير موزونة أو مبرمجة مسبقاً ستؤدي إلى زيادة المعروض من الأسهم وهذه الزيادة الكبيرة إذا لم يصاحبها زيادة في الطلب (محدودية السيولة) فستؤدي إلى تدني أسعار الأسهم بشكل كبير مما ينتج خسائر كبيرة وبالتالي سقوط غير مرغوب فيه لسوقنا الناشئة. ندرك جيداً أنه لا بد أن يكون هناك توازن بين العرض والطلب ولا ننسى أن سوقنا حقق خسائر هائلة في السنتين الأخيرتين (ذوبان مدخرات الأفراد). ففي أدبيات علم الاقتصاد ما يسمى بالاقتصاد المثالي (Normative Economics) وهو الذي يسعى إلى إيجاد حلول إنسانية تمكن صانع القرار من التخفيف من الآثار السلبية لهذه القرارات، ولعل من هذا عدم التسرع في طرح الاكتتابات المستقبلية دون دراسة وافية لأوضاع المواطنين والسوق مما يخفف من الآثار السلبية التي قد تلحق بالمكتتبين وبسوق الأسهم بل وحتى بسمعة المملكة المالية والاقتصادية على المستوى الدولي.
* لا بد من جدولة الطروحات القادمة للشركات بحيث يكون معلوماً لدى كل مواطن متى وكيف تتم الطروحات بوقت كاف - سنة مثلاً - بحيث لا يكون هناك مفاجأة وما ينتج عنها من نتائج سلبية على السوق، وحتى لا نضطر إلى تمديد فترة اكتتاب هذه الطروحات أو حتى سحبها إذا لم يتم تغطيتها والشواهد الحالية توحي بما سيحصل للاكتتابات المستقبلية إذا لم يتم تدارك الوضع بالتخطيط الجيد والمدروس من كافة الجوانب. وفي هذا السياق أقترح أن يتم الطرح المستقبلي على مراحل (ثلاث مراحل مثلاً)، ففي المرحلة الأولى يتم الاكتتاب بثلث الأسهم وعند بداية العمل بالمشروع يطرح الثلث الثاني وعند التحضير لافتتاح المشروع يطرح الجزء المتبقي (وبذلك نعالج أيضاً مشكلة الاكتتاب بكامل الأسهم ودفع نصف القيمة مثلاً ودعوة المكتتبين لتسديد المتبقي فيما بعد)، وبذلك نتلافى مشكلة السيولة ونضمن التغطية التدريجية الكاملة وبث الثقة في مساهمي هذا المشروع مما ينعكس إيجاباً على نفسية المساهم وعلى سهم الشركة المكتتب بها. مما سبق يمكن استنتاج النقاط الرئيسية التالية:
1- البحث الجاد في إمكانية مشاركة من له ملاءة مالية في السوق السعودي ضمن لجنة استشارية لمجلس الهيئة ويتم اختيارهم طبقاً لخبراتهم ومؤهلاتهم إضافة إلى ما تراه هيئة سوق المال من شروط مناسبة.
2- التريث والتأني بسياسة تعميق السوق بحيث تتم جدولة الاكتتابات بوقت كاف ومعلوم لدى الجميع، ليتمكن المساهمون من تجميع مدخراتهم حتى لا نقع في مشكلة اكتتابات اللحظات الأخيرة أو اكتتابات الفزعة في المستقبل المنظور.
3- ضرورة وجود مركز إعلامي للهيئة لديه القدرة والإمكانيات والصلاحيات لإعطاء وجهة نظر الهيئة في أي شأن من شؤون السوق، كذلك إعطاء تقارير أسبوعية أو شهرية عن أحوال السوق ومناخه العام وتوقعاته المستقبلية طبقاً لمعطيات واقع اقتصادنا الراهن، وأثر هذا على السوق. فموقف المتفرج بحجة عدم التدخل والمساس بميكانيكية السوق لا يعفي الهيئة من هذا الدور.
4- الأولوية في الطروحات المستقبلية للشركات التي تساهم بشكل كبير في القيمة المضافة للاقتصاد الوطني والتوظيف، كما أن احتساب المؤشر بصورته الحالية يحتاج إلى إعادة نظر، بحيث يشمل الأسهم الداخلة في السوق حتى لا يكون هناك منافذ للضغط على المؤشر من خلالها.
5- مع تقديري واحترامي لكل المحللين الماليين، إلا أن هذه التحليلات تبقى مبتورة كونها لا تربط الأرقام بكافة القطاعات الاقتصادية الأخرى. لا بد أن يشمل التحليل واقع المنشأة والقطاع المرتبطة به والقطاعات الاقتصادية الأخرى، والجميع بالاقتصاد الوطني ككل. أرباح شركاتنا جيدة وواقع اقتصادنا في نمو وازدهار ولله الحمد والمنة.
د. عبدالعزيز بن حمد القاعد
أستاذ الاقتصاد المساعد - كلية الملك عبدالعزيز الحربية