Al Jazirah NewsPaper Thursday  10/05/2007 G Issue 12642
الثقافية
الخميس 23 ربيع الثاني 1428   العدد  12642

الشاعر الأمير
د. محمد العيد الخطراوي

شاعرنا الأمير قمة شامخة من القمم الشعرية الباذخة لا داخل الجزيرة العربية وحدها، بل في العالم العربي كله، وعلى صعيد البحث والتمحيص، انتزع شعره الإعجاب من النفوس انتزاعاً، واستولى على القلوب كما تستولي عرائس الجمال على الكون في لحظات الأشواق والحب والفتنة، فأفسح له الأدباء والنقاد درب الخلود ومعاريج الشهرة والذيوع، وجردوا أقلامهم لتقويم شعره وإجلاء النواحي الفنية فيه، فكان في كل مرة يزداد روعةً وجمالاً، وتنكشف جوانب كثيرة منه تؤكد عمقه وأصالته، وتحله مكانته اللائقة به في عالم الفن والإبداع، كان شعره أول سفير عربي عبر حدود البلاد ليمثلها أحسن تمثيل، وليقنع الناس هناك أن الأرض التي انجبت قبل لا تزال تنجب، وأن البلاد لم تجدب، والمعِين لم ينضب، إنها لا تزال تزخر بالملكات الخلاقة والعبقريات المبدعة، التي تصل الأمجاد الشعرية الماضية لهذه البلاد بعنوان الحاضر وحرارته وإشراقه، في إيمان وثقة واقتدار، ذلكم هو الشاعر الأمير (صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل) الذي عرفت دنيا الشعر إطلالته الأولى عليها باسم (محروم)، فبهذا الاسم الشاعري كان ينشر معظم قصائده داخل المملكة وخارجها، وبهذا الاسم نشر ديوانه الأول (وحي الحرمان) عام 1373هـ.

والشعراء الأمراء في تاريخ الأدب العربي قلة، تستدعي التوقف وتتطلب التأمل، كظاهرة خاصة متفردة، صحيح أنك تجد من بينهم من ينظم البيت أو القصيدة، ولكن الذين فرغوا منهم للشعر أو فرغ الشعر لهم: معدودون، ذلك أن انشغالهم بالأمور المختلفة كثيراً ما يلتهم طاقاتهم في وجهات أخرى، ويضيق أمامهم فرصة التفرغ للآداب والفنون، إلا في الحالات التي يخالط فيها الفن النفس ويمازجها بشكل عنيف لا يمكن معه الانفكاك بحال، بحيث يصبح جزءاً من الذات ومقوماً من مقوماتها، وكذلك كان عبدالله الفيصل، ففي الشعر متنفسه وانطلاقه، وبه يحقق وجوده الفني وسعادة روحه، فلا غنى له عن الشعر ولا غنى للشعر عنه بحال. فالشاعر الأصيل من وجد نفسه شاعراً دون خيار.

ومن أجل هذا آثرت أن اسميه الشاعر الأمير لا الأمير الشاعر، وسيحتفظ تاريخ الأدب باسمه مع الشعراء الأمراء القلة: عبدالله بن المعتز، وأبي فراس الحمداني، والمعتمد بن عباد، مع ميزة ظاهرة، وهي أنه من أسرة يقرض أكثر أفرادها الشعر ويميلون إليه: الفصيح منه والنبطي، ولذلك نجد شاعرنا الأمير يبدأ نظم الشعر في سن مبكرة جداً، ويزاول النوعين معاً أيضاً، ولكن شعره الفصيح هو الذي يعنينا، وهو الذي عُرف به في الأوساط الأدبية العربية.

وفي الرياض قلب الجزيرة العربية وُلد وترعرع، وفي كنف جده العظيم نشأ وتأدب، ثم على يدي والده الملك الشهيد تم له ما تم من تعليم ورعاية وتوجيه، يقول الشاعر الأمير في مقدمة ديوانه: عزائي الوحيد أنني أحب وطني وشعبي حباً لا يعادله حب، واتفانى في عملي وأخلص لمبادئي العليا التي غرسها والدي في أعماق نفسي، ومنتهى سعادتي شعوري بأنني أحب الكثير من مواطني الكرام.

وعندما تقرأ مثل ديوان وحي الحرمان لتكتب عنه تُحار في الاختيار لأن كل قصيدة فيه تطالعك بلون خاص من ألوان الغزل الرفيع، أو الوطنية المشبوبة، وأكثر قصائده تلقفها الفنانون في المملكة وخارجها وغنوها، وأسعدوا بها جماهيرهم نغماً رائعاً وشعراً أصيلاً، ومن هنا أجد نفسي خيراً مشدوداً إلى قصيدة رددتها وترددها جميع الشفاه في العالم العربي، وهي قصيدة سمراء، التي يقول فيها:

سمراء ياحلم الطفوله

يامنية النفس العليله

كيف الوصول إلى حماك

وليس لي في الامر حيله

ان كان في ذلِّى رضاك

فهذه روحي ذليله

ووسيلتي قلبٌ به

مثواك إن عزّت وسيله

فلترحمي خفقاته

لك واسمعي فيه عويله

قلب رعاك وما ارتضى

في حبه ابداً بديله

اسعدته زمنا وروّى

وصلك الشافي غليله

مابالُ قلبك ضلّ عنه فما

اهتدى يوما سبيله

وسبيلك الذكرى إذا

ما داعبتك رؤى جميله

في ليلة نسج الغرام طيوف

ها بيد نحيله

وأطال فيها سهد كل

متيَّم يشكو خليله

سمراء يا أمل الفؤاد

وحلمه منذ الطفوله

ردد الأبيات المرة تلو المرة وستجد المعاني تتدفق إلى نفسك في كل مرة كشلالات الضياء، تزيد ولا تنقص، وتتسع ولا تضيق، وتحملك على أجنحة من نور إلى أرض الأشواق والذكريات.

في ليلة نسج الغرامُ طيوفها بيد نحيلة

في هذه القصيدة لم يصف جسماً بضَّاً ولا كشحاً هضيماً ولم يتحدث إلى القوام الرشيق والوجه الأنيق وإنما سكب أحاسيسه في قلب شبابته ثم حرك أنامله السحرية ففاض اللحن، وانطلق النغم هامساً كأنفاس الربيع وتهويم الفراش وانبثاق الفجر الراقص على ارغول الطبيعة الذي لا تنقطع أصداؤه ولا يفنى هواه.

وهو من الشعراء الذين لم يشطوا في التمرد على شكل القصيدة العربية الموروث، بل اكتفى بالمراوحة بين القوافي، ليبرهن بذلك على أن الأهمية لا تكمن في الشكل بقدر ما هي كامنة في المضمون، لأن في إمكان الشاعر القدير المتمكن من فنه أن يحلق في سماء التجديد داخل إطار الأشكال النغمية القديمة دون أن يؤثر ذلك في فنه، أو أن يعوقه عن التجديد.

وشاعرنا الأمير فنان مثقف اكتسب ثقافته الواسعة من المطالعة والمجهود الشخصي والانكباب على القراءة والتأمل في الشعر العربي القديم والشعر الحديث العربي منه والمترجم من مختلف الآداب العالمية، بالإضافة إلى ما يمتلكه من موهبة خصبة وإحساس فطري مرهف، امتزج في داخله كل أولئك وكوّن له شخصية متميزة ليست شرقية، ولا غربية ولكنها شخصية عبدالله الفيصل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد