تبدو العلاقة السببية هي الحالة المتموقعة بين الجهل كمقدمة تنم عن غياب كلي أو جزئي لنشاط الذهن، وامتداداته المعرفية، وبين التخلف كنتيجة حتمية تسفر عن تداعي الوعي وتدفع بمجترحها إلى هاوية الانحدار الوجودي. التماهي ينتظم بوضوح جلي العلاقة العلية بين طرفي ثنائيتها، وهذا شأن طبيعي يقرره نظام العلاقات بين الأشياء الذي يؤكد على أن الاثار تتضاعف بقدر ما تتنامى بواعثها، كما أن المسببات تتضاءل كلما انحسرت عللها. الجهل هو الوجه النقيض للعلم، فالعلاقة الثنائية بينهما مرتكزة على التفاعل التنابذي -لا التجاذبي- فكل منهما يعمل على إقصاء الآخر للاستئثار بالوعي، والسيطرة على مفاصله سواء من حيث بنيته الفوقية كطاقة وقوة إدراكية، أو من حيث بنيته التحتية كعنصر خلفي خفي يقف وراء ردود الأفعال، والأعمال الغريزية، فالوعي هنا يتنازعه نقيضان فهو بين خيارين لا ثالث لهما فإما أن يتعانق مع قيم العلم والمعرفة والكمال، وإلا سيلتهمه الجهل، ويواريه في هاويته العدمية. الحرب ضروس في ساحة الجغرافيا الذهنية بين الجهل كأعمق إشكالية يواجهها الوعي فتقزم فاعليته، وتعيق حراكه، وتصادر منحاه الإشعاعي، وبين العلم كعنصر تطويري يعمل على تنظيم الخريطة العقلية، ويفعل طاقاتها المكنونة لتشكل ملامح الفاعل الرسالي. الجهل بطبيعته درجات أسوأها الجهل المركب. فهو يتركب من جهلين أحدهما: الجهل بالذات والوقائع والأشياء. الثاني: وهو الأخطر الجهل بهذا الجهل. أي أن الجاهل يجهل بأنه جاهل - ومن المعروف أن العلم بالجهل يعد إحدى درجات المعرفة- الوعي لدى الجاهل المركب مغيب فهو لا يعي بذاته فضلاً عن غيره. وهذا ما يجعله يرضى بحاله فلا يبحث عن عوامل تزكيتها. الجهل من هذا النوع تسهل رؤيته بجلاء فهو من الوضوح والتجلي ما يغنيه عن أي تعريف ولكن الإشكالية العظمى تكمن في (الجهل المقنع) هذا الجهل الذي ينطلي على الكثيرين، وخصوصا البسطاء. وأقصد بالجهل المقنع هنا، هو ذاك الذي يحمل صاحبه شهادة دراسية عليا، ماجستير - دكتوراه، وقد يتجاوز إلى أعلى درجة في السلم الأكاديمي، ولكنه مع ذلك لا يقارب مستوى الوعي في مفهومه المعرفي، الإثرائي، بل يعيش في غيبوبة من الجهل، على نحو يشي بأن الوعي المعرفي كمفهوم بات يفقد في هذا السياق كل مصداقية المعنى القارّفيه. هذا النموذج ليس مجرد حالات فردية، بقدر ما هو ظاهرة عامة، تتنامى وبوفرة ملحوظة في الفضاء الاجتماعي على المستوى العربي. ومن المعلوم أن مجرد الشهادة الدراسية-في كثيرٍ من الأحيان- لا تمنح صاحبها حصانة ضد وباء الجهل، ولاتكسبه مناعة تنفي عنه طابعه العام، وليست كفيلة بمنحه تأشيرة لعبور مناطق الأمية والتخلف، بقدر ما تستخدم كقبعة إخفاء تحجب حقيقة الذات المسكونة بسلطة الجهل، بوصفه - في هذا السياق - الكائن الملهم لها باستمرار. ولو باشرنا تشريح نظام الوعي الذي يعمل بموجبه تفكير هذا النموذج المقنع لألفينا لديه شخصيتين غير قادرتين على التلاحم في العمق، فالحميمية مفقودة، والتنافر يعمل صامتاً منذ البداية. أحدهما: شخصية مستعارة، (ممكيجة) مصطنعة، غنية بالأقنعة، وعلى الرغم من التفاني اللاهث في تصنعها، إلا أن التصنع هنا يكشف وبجلاء عن عملية تزييفية تنطق وبصوت عالٍ بعدم أصالتها. كذا يبدو التصنع ضد المتصنع، - ثمة طبع وثمة تطبع - (الديالكيتك) تباشر وظيفتها هنا، وكأن الشخصية الحقيقية الضمنية، تبدو مقاومة لتتأبى على تزييفها، إنها ترفض الكمون، فتتمنع على الترويض، وتحتج على كل محاولة رامية إلى إفقادها خاصيتها، وانبثاقها التلقائي! الثاني: شخصية ضمنية، غير متداولة اجتماعياً، مع أنها تظل حاضرة على نحو ما، بشكل أو بآخر، إنها شخصية خفية قائمة بذاتها، دائماً لها بصماتها مهما مورس عليها من حجب كثيرة لجعلها في الظل، هذه الشخصية ثاوية خلف الكواليس. فثمة ستائر مسدلة. (البراقع) لها اعتباريتها في هذا المساق. ثمة انفصام حاد جلي، فالشخصية الظاهرة في بعض تفاصيلها لا تمثل الحقيقة بقدر ما تعبّر عن حقيقة مفترضة. المتجلي هنا ليس سوى ظل - خيال لحقيقة تتعالى عليه لا تتكون منه ولا بمكنته أن يَكونَها التعتيم يلعب دوره في هذا السياق لإخفاء الجهل الذي يشكل خلفية ما ورائية، وفاعلية تدميرية، توجه عموم السلوك. الجهل هنا يتحرك في الظل، وعلى نحو صامت، نائياً عن الأنوار، التقية تمارس بكثافة، فثمة ما هو مبطن، مضمر، متوارٍ عن الأنظار، يمارس تلوين الملامح من الداخل اللجي. هذا الجهل المقنع الذي يعاش ضمناً في العمق له - في تقديري - سببان:
الأول: أن الدراسات العليا بطبيعتها محصورة في بؤرة معرفية ضيقة محدودة، لا يتجاوزها الباحث، فهو يصب كل جهوده في موضوع واحد، يتجه إليه بكل ذاته، يستهلك كل طاقاته، ويستأثر بجهوده كافة، ينغلق عليه، ينشغل به عن غيره، يكون هو محور اهتماماته، طبعاً هذا على افتراض أن الموضوع ذو صبغة علمية، يعتمد على أعمال العقل، وإلهاب الذاكرة الذهنية، ويشكل إضافة إلى المعرفة، على نحو ما، هذا جانب، الجانب الآخر - وهو الأهم - محدودية الإطار القرائي، لدى هذا النموذج، نتيجة لأن سدرة منتهى طموحاته، لا تتجاوز الحصول على المؤهل لذاته، ولذا فهو غير منفتح على التخصصات الأخرى، وليس لديه أي اهتمامات ثقافية تتجاوز المنهج النظامي، بل يعيش غربة معرفية، على نحو يبقيه معزولاً، ونائياً عن الموضوعات الأخرى فضلاً عن العلوم، والفنون، والمعارف التي قد لا يعرف منها إلا أسماءها، وهكذا يستحيل اللقب العلمي إلى دال لا يدل سوى على لا مدلوله!، وذلك باعتبار أن الدافع هنا ليس علمياً بقدر ما هو نفعي مادي محض! إن استغراق الوقت في الدوران في فلك الردهات الأكاديمية، وعدم التغريد خارج التحديدات الدراسية، ليس إلا تسطيحاً للمعرفة، وتحسيراً لآفاقها، وحدا من إمكاناتها اللامحدودة.
ثانياً: من أسباب الجهل لدى هذا النموذج أنه قد يختزن في ذاكرته كمية كبيرة من المعلومات، ولكنه لا يعي آلية توظيفها كما يجب، ومن المستقر المعتبر أن مجرد تكديس المعلومات لا يؤتي أكله إذا لم يجر تجاوز ذلك إلى مرحلة تكوين وعي مفصل بأبعادها الإصلاحية، وإدراك كيفية الاستنتاج الذي يمثل إضافة نوعية. غزارة المعلومات لا تمد العقل بشيءٍ ذي قيمة إذا لم يتم الانبعاث وفقها وعلى ضوء ربطها بغيرها ومن ثم إجراء الاستحلاب التوليدي لابتكار معطيات حديثة تفضي إلى تحقيق نمط من الوجود يتسم بقدرٍ عال من السوية الموضوعية في متباين الوضعيات الاجتماعية والذهنية السياسية والاقتصادية. المنحى الغائي للمعلومة يتمثل في إيجابية توظيفها لتحديث الحياة، وتجسيد ما تقتضيه اشتراطات المعاصرة وفق النسق المعرفي المعياري. هذه الأسباب هي التي تجعل هذا النموذج يبدو وكأنه لا سلطان له على ما يتلبسه من ضآلة وعي على نحو يندفع جراءه لإجراء جراحات تجميلية، يكون فيها هو الطبيب، وهو المتطبب - الدور (المعي) يحاول إثبات وجوده هنا -، إنه يمارس تجميلاً من نوع آخر، عبر مكاييج (جمع مكياج) معرفية لإحداث تحوير مّا. فهو يهرب بذاته من ذاته، بإقصائها أو بتلوينها من خلال تقمص ما يناقضها، إنه يلفظ ذاته، إذ يعيش خارجها، على نحو يؤكد أنه منهك بأعباء السلوك الازدواجي.
إن من الثابت علمياً أن الشخصية عندما تفقد ثراءها، وتخلو من بواعث خصوبتها، يتولد لدى صاحبها شعور حاد بالنقص يحرضه على استدعاء إضافات وزخارف تغيب حقيقته الكالحة، وتمنحه لوناً آخر يلبس على البسطاء. الخواء المكثف يدفع بصاحبه إلى تكثيف الطلاء الظاهري الذي بفعل سطوعه يصرف الأنظار عن النفاذ إلى معاينة الباطني القابع في الخلف، مثله كما الفتاة ذات القدر العالي من الجمال التي يؤخذ من رآها بجمالها عن مثالبها فلا يشاهد إلا هو، وينسى ما تنطوي عليه من الحمق والبلاهة والتنحطاط الأخلاقي. (الجاهل المقنع) قد يبدو ذا ثراء علمي في الظاهر، ولكن عندما تتسلل إلى عمق الذات، فتتجاوز الألق الخارجي، لاستكناه الكامن في كيان الكينونة، وكشف ميتافيزيقا الأنا، وتعرية منحاها الما ورائي، وذلك عبر الدخول في حوار مّا تجد نفسك - عندما تأخذ القشور بالتساقط- أمام بنية مهترئة، وذات متدنية في جانبها المعرفي، متسطحة في معلوماتها، بدائية في طريقة تفكيرها، تصطدم بواقع لم يكن في حسبانك، حيث تجد ذاتك أمام ذات تقف في إدراك الواقع عند مستوى الإدارك السطحي، والانطباعات الحدسية، تفتقد القدرة على التحليل والتركيب، وإدراك العلاقة بين المقدمات ونتائجها. طبيعة تعاطيها مع الأشياء، وترتيب الأولويات، لا تجري وفق معطيات علمية، بل لديها قابلية شديدة للوقوع في أسر الفخ العاطفي! إن الحوار ودفع الآخر للحديث هو السبيل الكاشف لحقيقة الذوات، وهذا ما يجعل المقنع في أحيانٍ كثيرة يتجنب الدخول في مواضيع الحوار، ويؤثر عدم الخوض فيها، ولذا يتوهم بعض البسطاء أن هذا بدافع الكبر، والحقيقة أنه بدافع الجهل، والكبر ليس إلا آلية ومسلكا هروبياً يستطيع من خلاله أن يستر جهله بصمته، ولا يميط عنه اللثام بنطقه.
إن الإشكالية تعظم عندما يكون هذا النموذج المقنع منتمياً إلى إحدى الجامعات فهنا تكمن الخطورة لأن الجامعة كمؤسسة أكاديمية، تعتبر مركزاً تنويرياً، وقوة استقطابية، متضمنة - أو هكذا يفترض- للمعنى الذي أنشأت من أجله وهو تشكيل ملامح الوعي العام، فإذا كان أحد المنتمين إليها بهذا المستوى المتدني، فهذا يعني أن ثمة تهميشاً لدور الجامعة، تقليصاً لفعاليتها، وتضئيلاً للجغرافيا القيمية التي تحتلها، لأن الأستاذ هنا يبيت مصدراً من مصادر الوعي وإرباكه. إن ثمة علامة فارقة ثابتة مميزة للأستاذ المقنع هنا وهي أنه يرفض - صراحةً أو ضمناً- إثارة الأسئلة وخصوصاً ذات الطابع المركز والعميق. ثمة رهاب سؤالي يتلبسه هنا، ولذا يبدو الصمت متملكاً للقاعة، يتخلل فضاءها، لا يقطعه سوى نحنحات متقطعة تستعصي على الكتمان، أو سعلة لا سلطان لصاحبها عليها! وهكذا تبدو (البيولوجيا) تتعالى على الضبط، وهي السبيل الوحيد للتمرد على هذا المناخ الصمتي!!
الأستاذ يرى أن السؤال ممارسة اختراقية، لماذا؟! لأنه يكشف عن تواضعه المعرفي، وهذا ما يجعله يتعامل مع الأسئلة باعتبارها هرطقة يعاقب فاعلها عليها! ثمة (سادية) سائدة، كسيدة، للموقف على نحو يدفع الطالب لكي يضمن له القبول والرضا ألا يتجرأ على إثارة الأسئلة فضلاً عن المعارضة المهذبة وليس أمامه من خيار إلا التبرمج - ولو شكلياً- بما يملى عليه حتى ولو كان لا يميل إليه، والعمل على مباركة كلام الأستاذ عبر كلام مجاملاتي الأبعاد!!
إن التصدر بلا تأهيل كثر في واقعنا المعاصر ويبدو لي أن طبيعة التعاطي الاجتماعي هي الباعثة على ذلك. فمن الجاري المألوف أنه ما أن يبرز أحدهم في فن مّا كتأويل الرؤى أو رقية المرضى على سبيل المثال إلا ويضفي عليه هالة شعبية فتنهال عليه الاتصالات من كل حدب وصوب يستفتونه ويطلبون رأيه الثاقب في أدق المسائل وأجلها. هو الآخر يصدق ذلك ويبدأ يخوض في أمور قد يكون لم يسمع بها من قبل فضلاً عن أن يحسن الحديث في مجالها وهو في كل ذلك لا يعدم وجود من يهتف باسمه ويصفق له - طبعاً ثمة من هو من السذاجة بمكان فهو يصفق للشيء ونقيضه في آن - مثل هذا النموذج يريد كما يعبر (الحافظ الذهبي): (أن يطير قبل أن يريش) لأنه لا يدرك أنه يتعذر عليه الاستنسار.
وفي الختام فإن كان في وجود الجهل من إيجابية فليست إلا معرفة مكانة العلم وجلاء أفقه الجمالي.