إن الذين يقفون مع تعميم اللغة الأجنبية في المجتمع، والسماح لها بالتمدد فيه دون ضوابط، وأولئك الذين يرون تعجيم المناهج سواء في التعليم العام أو في التعليم العالي يرتكبون دائماً خطأً منهجياً. فهم عندما يدافعون عن رأيهم يتكلمون من منطلق أهمية اللغة الأجنبية للتواصل مع العالم ومع العلم، ويستدلون على ذلك بأحجام الكتب المطبوعة باللغة الإنجليزية، وأعداد الذين يتكلمون الإنجليزية لغة للتواصل العالمي، وكيف أصبحت الإنجليزية لغة الشابكة (الإنترنت)، ويصفون الذين يدافعون عن حق العربية في الوجود والاستعمال بأنهم متقوقعون على أنفسهم، ويصورونهم على أنهم يريدون منع تعليم اللغات الأجنبية، والاقتصار على العربية وحسب. وهذا محض وهم إن لم يكن محض افتراء. فالذين يدافعون عن العربية لا ينكرون ضرورة تعلم اللغات الأجنبية.
ونحن في هذا المقام لا نناقش أهمية معرفة اللغة الأجنبية من عدمها، لأننا نؤمن بفائدة تعلم اللغة الأجنبية، ونعتقد أن تعلمها قد يكون ضرورياً لكثيرٍ من الناس، ولا ندعو إلى التقوقع كما يظن دعاة الأجنبية، ولا إدارة الظهر للغة الأجنبية، بل نستحسن تعلمها بعد المرحلة الابتدائية، لكن هذا شيء، وقلب المناهج جميعاً من عربية إلى أجنبية شيء آخر. فالخلاف إذن ليس في أهمية اللغة الثانية للإنسان في هذا العصر، بقدر ما هو في تحديد الحيز الذي تستحقه هذه اللغة من تفكيرنا وتخطيطنا وممارساتنا اليومية، بالطريقة التي لا تزاحم لغتنا، ولا تؤثر في هويتنا وكرامتنا.
والمشكلة أن كثيراً ممن كتبوا في موضوع تعجيم التعليم لا يتعمقون بعض الجوانب بشكلٍ كاف. فمثلاً يتحدث أحدهم عن التعددية اللغوية، باعتبار أنها حق من حقوق المواطن، ويمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، دون معرفة بخلفية هذا الوضع هناك. فالولايات المتحدة تتكون من أعراق مختلفة، وأجناس متعددة. إذ هناك الأعراق الأوروبية وهناك الأعراق الأمريكية اللاتينية، وهناك الأعراق الآسيوية، وغيرها. وبعض المنتمين إلى هذه الأعراق يطالبون بحقهم في التعليم بلغاتهم، وإجراء المعاملات الرسمية بها، اعتزازاً منهم بهذه اللغات وخوفاً منهم على اندثارها. على الرغم من أن اللغة الإنجليزية تجمعهم جميعاً. وهناك حركة نشطة في الولايات المتحدة تستهدف منع الثنائية اللغوية والاكتفاء باللغة الوطنية أي اللغة الإنجليزية، ويسمونها البوتقة التي تصهر جميع الثقافات، ولحركة الإنجليزية فقط english only وهي تمثل في هذا الاتجاه نفوذاً واضحاً، وقوى ضغط كبيرة في الكونجرس، وهي تحاول منذ مدة تعديل الدستور بحيث تكون الإنجليزية لغة للدولة. ولم تنجح حتى الآن وإنما حصلت على اعتراف من الكونجرس بأن تكون الإنجليزية لغة وطنية، ومقابل ذلك هنالك حركات وجمعيات عديدة تطالب بالثنائية اللغوية في أمريكا، وقد نجحت في تطبيقها على مستوى بعض الولايات، وغني عن الذكر أن هذا الوضع لا ينطبق علينا في المملكة.
أما ما يقال من تشجيع تعليم اللغة الأجنبية في دول الاتحاد الأوروبي مؤخراً، فليس فيه حجة على ترك التعليم باللغة الوطنية، ويكفي أن تعلم أن الزائر لمبنى برلمان الاتحاد الأوروبي في بروكسل سيجد أن هذا المبنى يحمل لوحة كبيرة كُتب عليها اسم البرلمان بلغات الاتحاد جميعاً، وهذه اللوحة تحمل ثلاثة أنواع من الحروف، الحرف اللاتيني، والحرف الروسي، والحرف الإغريقي.
فدول أوروبا المتحدة لا تفضل لغة على لغة في اتحادها، مهما كبرت هذه الدولة، ولم تقلب اي منها تعليمها إلى اللغة الإنجليزية، ولم تجعل هذه اللغة - التي يطبل لها بعض الناس عندنا - رسمية للاتحاد - ودستور الاتحاد يصر على التنوع اللغوي بين دوله على الرغم من أن ثقافات المواطنين متقاربة وكذلك أصولهم. وغاية ما يفعلونه الآن هو إضفاء مزيدٍ من التقارب بينهم بتعلم لغة أجنبية واحدة لدولة من دول الاتحاد، وتشجيع الترجمة في الاتحاد كي يتم التواصل بينهم بسهولة، حتى ان المفوضية الأوروبية تضم الآن 1300 مترجم لتغذية الحاجة الشديدة للترجمة، وهناك 27 مقصورة للترجمة حول قاعة المناقشة في البرلمان الأوروبي، وستزاد كي تستوعب اللغات الجديدة، على ما يذكره موقع ال BBC العربي. وهذا الاحتفاظ باللغة الوطنية، والإصرار على تفعيلها في مختلف المواقع عكس ما نفعله نحن العرب الذين نملك لغة واحدة، موحدة، تجمعنا جميعاً ومع ذلك فإننا نتجاهلها، وننصرف عنها، ونغلب عليها اللهجات العامية واللغات الأجنبية. ونتخاطب ونتكاتب باللغة الأجنبية في كثيرٍ من المواقع.
تُرى لماذا يركب الأوروبيون الطريق الصعب، ويبذلون الغالي والنفيس للاحتفاظ بلغاتهم، وبعضها صغيرة كالسلوفينية والمالطية، والمقدونية والكرواتية، ولايفعلون مثل ما يتمناه بعضنا فيأخذون اللغة الإنجليزية لغة واحدة لهم؟ وهي القريبة الدار والثقافة. واللغة ذات السطوة والنفوذ؟ هل هم من الغفلة والتخلف بحيث يدفع كل مواطن أوروبي ما يقارب 2 يورو من قوته كي يمكن الاتحاد من نقل ما يدور في البرلمان الأوروبي إلى اللغات الأوروبية المختلفة؟ بينما كان بإمكانهم أن يفرضوا الإنجليزية على الجميع سعياً وراء مصلحة مشتركة.
إن لغة التعليم في البلاد المتقدمة أمر سيادي، فهو لا يؤدي إلا بلغة الدولة الرسمية، ولا يسمح بالتعدد اللغوي في التعليم إلا إذا كانت هنالك أعداد كبيرة من المواطنين تختلف لغاتهم عن اللغة السائدة، كما في بعض الولايات الأمريكية أو بعض المناطق في سويسرا، أو كندا. فثنائية اللغة في التعليم تأتي وفاقاً للتعددية اللغوية والإثنية في المجتمع، مراعاة لحقوق بعض الأقليات أو الأجناس.
أما عندنا فالأمر مختلف تماماً فنحن شعب عربي واحد، ديننا الإسلام، ولغتنا الرسمية والدينية والثقافية هي اللغة العربية، فلماذا نتنازل عن هذه اللغة في مناهجنا للغة أخرى؟ وأي مصلحة في أن نمسخ عدداً كبيراً من أبناء مجتمعنا لغوياً، ونحرمهم من التعاطي مع العلم الحديث بلغتهم الأم؟ وهم يشتاقون إلى التعليم بلغتهم.
إن من الحقوق المسلمة للإنسان أن يتعلم بلغته الأم، التي يفكر ويبدع فيها، فلماذا نضطر هذا الطالب إلى الدراسة بلغة غير لغته، نفرضه عليه فرضاً.
وقد بيّن سعادة وكيل جامعة حائل في لقاء له مع جريدة الرياض (الخميس 2 ربيع الآخر 1428هـ ص 61) أن الجامعة واجهت صعوبات مع طلابها وطالباتها في مستهل الانطلاقة لتعليم اللغة الإنجليزية، الأمر الذي جعل البعض ينادي بعدم تدريس المواد باللغة الإنجليزية، وهروب بعض الطلاب، وأكد سعادته أن القرار نهائي ولا رجعة فيه. ألست ترى معي أن التسرب والضياع مصير الكثير من أولئك الطلاب بسبب شرط تدريس المواد باللغة الأجنبية؟
أليس من الأجدى أن نجعل اللغة الإنجليزية مادة واحدة متزامنة مع الطالب طوال مسيرته الجامعية، تتشكل بالشكل الذي يحتاجه هذا الطالب في التخصصات المختلفة، بينما يسير تدريس المواد العلمية باللغة العربية، فيسهل ذلك على الطالب ويكون فيه أكثر إبداعاً واستيعاباً، ولا يفقد العلاقة باللغة الأجنبية. هكذا تفعل معظم دول العالم فلماذا نشذ نحن عنها؟
ومن الغريب أن يرى بعض الكتاب في الدعوة إلى حب اللغة العربية والدفاع عنها، وتمكينها من العمل في مختلف قطاعات الحياة كما يفعل الآخرون بلغاتهم، أن يرى في ذلك نوعاً من الشوفينية والمبالغة. فهل يرى هؤلاء أن كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي، بل من دول العالم، دولة شوفينية؟ أم أن الوصف خاص بالمدافعين عن اللغة العربية، لغة الدين الإسلامي واللغة العربية؟!!
ومن الحجج التي يدلي بها بعض المتحمسين لتعجيم التعليم قولهم إن تعليم الإنجليزية مع تكثيفه في المدارس الأهلية لم يؤتِ أكله في إتقان هذه اللغة وأن الطلاب يخرجون من الثانوية بلغة أجنبية ضعيفة.
ونقول إن من المؤسف أن نغمض العيون على الضعف اللغوي الظاهر لدينا في تعليم اللغة العربية، لغتنا الأم. فلا نهتم بإصلاح هذا الوضع المتردي ونقوم في الوقت نفسه بمعالجة الضعف في اللغة الأجنبية بصبغ المناهج بصبغة أجنبية، مما يزيد المأساة المتمثلة في تردي تعليم اللغة العربية لدينا. فمن المعروف أن معظم الطلاب يتخرجون من الثانوية وهم في منتهى الضعف اللغوي، لا يقيمون ألسنتهم، ولا يحسنون التعبير بلغة صحيحة عن أنفسهم، وخطوطهم متدهورة ومعظم هؤلاء الطلاب يكنون للعربية الفصيحة كرهاً واستهانة ما بعدها استهانة، ولا شك أن مرد ذلك إلى تلك المناهج المنفرة، التي تقدم بها اللغة العربية تقديماً سيئاً. والطرق العقيمة التي يؤدي بها تعليم اللغة لدينا. فهل نستطيع بعد ذلك أن نقول إننا عندما نسلمهم إلى مناهج أجنبية سنكون مطمئنين على اعتزازهم بلغتهم الأم، وانتمائهم إلى ثقافتهم؟ أم أن المتوقع أن يكون انسلاخهم من لغتهم وثقافتهم هو الأقرب؟ فهم لم يتقنوا لغتين كما يظن بعض الكتاب، بل الواقع أن اللغة الأجنبية قد انفردت بهم علمياً وثقافياً، ووجدانياً إلا إذا عددنا العربية العامية هي اللغة الثانية التي يتقنونها.
نعم لو أن مدارسنا تتحدث اللغة الفصيحة، وتخرّج طلاباً يتقنون هذه اللغة منذ نعومة أظافرهم، لكنا مطمئنون عليهم لأننا نعرف أنهم من القوة والصلابة بحيث لا تؤثر في نفسياتهم اللغة الأجنبية، ولا الثقافة الأجنبية.
والباحثون في علم اللغة النفسي يتحدثون عما يسمى: (بالأنا اللغوي) فإذا ربيت الأنا اللغوي (أي الضمير اللغوي) لدى المتعلم في مراحل حياته المبكرة تكون قد اطمأننت على انتمائه اللغوي، الذي هو بحد ذاته انتماء لثقافته وهويته. وهذا هو السر الذي يجعل الفرنسي والألماني والإنجليزي يقدم على التعاطي مع الثقافات الأخرى دون خوف، لأن كل واحد منهم واثق من نفسه، لتمكنه من لغته، وليقظة الضمير اللغوي لديه، وكذلك العرب في تاريخهم القديم عندما انطلقوا في احتكاكهم بالآخرين انطلقوا بهذا المفهوم، مفهوم إتقان لغتهم الأم والاعتزاز بها، لا مفهوم الانبهار باللغة الأجنبية والانقياد لها، وتطبيقها عشوائياً. وهذا الضمير اللغوي هو ما ندعوه نحن بالتحصين، فالمحصن لغوياً وثقافياً لا خوف عليه من التعاطي مع كل الثقافات لأن لديه من الوعي ما يمكنه من التفريق بين الغث والسمين، وبين ما ينفعه ويضره. أما الطالب العربي بخاصة فهو طالب هش لغوياً، لأن أنظمة التعليم في هذه البلاد العربية - ومنها بلادنا - لم تستطع أن تصوغ منه شخصية متمكنة من لغته الأم، فهو جاهل بلغته، وهو منبهر باللغة الأجنبية، التي تسخر لخدمتها أساليب كثيرة في المدرسة والإعلام والسوق. وإذا كان الأمر كذلك فمن المتوقع أن يكون تلميذنا عرضة للاستلاب الحضاري.
والواقع أن دراسات أجريت في بعض البلدان العربية أثبتت بما لا يقبل الشك أن تعليم الصغار في المدارس الأجنبية وأشباهها من المدارس الأهلية قد جنى جناية كبيرة على اهتمامهم باللغة العربية الفصيحة. ففي بحث أجراه باحثون تونسيون جرى في ثلاثة معاهد ثانوية بالعاصمة تونس، وجد لدى الطلاب نزعة نحو استعمال الفرنسية بدلاً من العربية، وقد علل أحد الباحثين ذلك بأنه بسبب (السياسة التربوية التي منحت هذه اللغة أهمية تفوق أهمية اللغة القومية أضعافاً).
ومن تابع البرنامج الذي بثته قناة العربية في رمضان الماضي، والذي تناول علاقة الشباب باللغة العربية الفصيحة، وكان بعنوان (عربيزي) يذهل من حجم التنكر للفصحى بين الشباب، وبخاصة أولئك الذين يدرسون في مدارس أجنبية، وكيف أنهم لا يجدون علاقة وجدانية تربطهم بهذه اللغة، فهم يكتبون ويقرؤون، ويتحادثون باللغة الإنجليزية، وإذا احتاجوا إلى العربية فإنهم يلجؤون إلى العامية للتعبير عما يريدون التعبير عنه. وكانت نماذج الشباب متنوعة من الخليج ومصر والأردن. إن هؤلاء الشباب يعلنون بكل صراحة أن لا علاقة لهم بالفصحى، فهي ليست لغتهم، ولا يهتمون بها، أو يحتاجون إليها. وينظرون إليها على أنها مادة للتندر والسخرية، وهذا دليل واضح على مدى تأثير تعريض الأطفال في سن مبكرة للغات الأجنبية وغمرهم بها.
ويحتج بعض المستحسنين لتعجيم التعليم في بلادنا بالتجربة اللبنانية. التي تعلم مدارسها الرسمية والأهلية بلغات أجنبية. ونقول إن التجربة اللبنانية ليست مقياساً صالحاً. ولا تنطبق على الوضع لدينا. فمن المعلوم أن لبنان مقسم في الأساس إلى انتماءات متعددة دينية وطائفية وعرقية وسياسية. وهو بلد يتطلع معظم أبنائه إلى الهجرة خارج الوطن، ويعدون لها، كما أن البلد في أكثر قطاعاته الاقتصادية بلد خدمات، وليس بلد إنتاج. وكل فريق فيه يرى مصلحته في الانتماء إلى معسكر أجنبي ثقافي. وقد جرى هذا التعدد اللغوي على ذلك البلد الكثير من المشكلات. وجعل اللغة الرسمية وهي اللغة العربية في أدنى درجات الاهتمام. ولا نحتاج شاهداً على ذلك فالفضائيات اللبنانية أكبر شاهد على التردي اللغوي الفصيح في لبنان. وعلى خلط اللهجة العامية بالمفردات والتعبيرات الأجنبية. وإلى استعارة كثيرٍ من الجمل والتعبيرات الأجنبية سواء أكانت إنجليزية أم فرنسية، وحشرها في الكلام العادي. ولن يطول الوقت - إن استمر الحال كما هو عليه في لبنان - حتى نرى اللهجة اللبنانية العربية تتحول لغة أخرى تشبه اللغة المالطية التي هي مزيج من العربية ولغات أوروبية مختلفة. فالتمثيل بلبنان ووضعه التعليمي اللغوي حجة على من يدعون للبرامج الدولية الأجنبية، لا لهم. وهناك بحوث أجريت على الوضع اللبناني اللغوي تؤكد ما وصفناه من تردي وضع اللغة العربية الفصيحة. وهو أمر مؤسف.
إن التشبه بلبنان ينطوي على خطر مستقبلي، قد لا يعرفه الكاتب الذي استشهد به، فدراسة المناهج باللغة الأجنبية بدأت في لبنان بالمدارس الأجنبية المرتبطة بالإرساليات التنصيرية، ثم بالمدارس الخاصة غير الرسمية، ثم ما لبثت المدارس الرسمية أن تبعتها. وهكذا في جميع الأحوال تبدأ المدارس الأجنبية بتدريس المناهج الأجنبية، ثم تتبعها المدارس الأهلية، وتكتمل الحلقة الثالثة الأخيرة- الحلقة الثانية لدينا، ولا ندري - إن استمر الوضع على ما هو عليه- كم سنأخذ من الوقت حتى تكتمل الحلقة الأخيرة. وإذا حدث ذلك - ونرجو ألا يحدث - فسوف تكون نتائجه بالغة الخطر.
ملحوظة:
حدثت في الحلقة الأولى أخطاء طباعية، لا تخفى على القارئ اللبيب، فقد تحولت اللغة الأجنبية في موضع إلى (الأدبية). وجاء التفرنس بالفظ (الفترنس) وغير ذلك.. والله المستعان.
(*) عضو مجلس الشورى