استعرضنا في المقالتين السابقتين بعض المساهمات الخاصة المميزة، ونماذج من مساهمات القطاع الخاص في خدمة المجتمع، وأشرنا بوضوح إلى أن مساهمات القطاع الخاص ما زالت قاصرة عن تحقيق طموح المسؤولين وأفراد المجتمع على الرغم مما يحققه من أرباح عالية، وأشرنا إلى ضرورة تأصيل مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وتحفيز قطاع المال والأعمال على تبني مسؤولياتهم تجاه المجتمع من خلال تقديم البرامج المنظمة، والمساهمة في المشروعات الاجتماعية المنتجة.
دعوة الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين ورئيس مجلس الأمناء في مركز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة، بتبني (المشروع الوطني لخدمة المجتمع) يجب أن تجد آذاناً صاغية وقلوب منفتحة وأيادي بيضاء من رجال المال والأعمال لتحقيق هدفها الإنساني النبيل.
وطالما أن الأمر على علاقة بالمال والتبرعات الإنسانية فيفترض ألا يُترك تطبيقه لرغبات الآخرين، وإلا انتهينا بمساهمات قليلة لا يمكن أن يتناسب حجمها مع حجم العوائد الكبيرة التي يحققها القطاع الخاص في السوق السعودية. يمكن للخبرات السابقة أن تحدد حجم المساهمات المتوقعة في مجال الخدمة الاجتماعية، وإذا كنا نتحدث عن (المشروع الوطني لخدمة المجتمع) فيفترض أن نتحدث عن إستراتيجية شاملة تنظم العمل الاجتماعي الداخلي. أعتقد أن المسؤولين عن وضع الإستراتيجية وتنظيم العمل الاجتماعي على أسس علمية مدعومة من الدولة رعاها الله سيكون لهم الدور الأكبر في تحقيق الأهداف الإنسانية العظيمة من خلال تحفيز القطاع الخاص على التبرعات وتبني أعمال البر، وتهيئة المشروعات الاجتماعية المراد تنفيذها من قبل القطاع الخاص، وحشد الدعم والتأييد الذي سيكون له أكبر الأثر في دفع القطاع الخاص نحو تحمل مسؤولياته الاجتماعية من خلال (المشروع الوطني لخدمة المجتمع).
يمكن أن نقسم القطاع الخاص إلى ثلاثة أقسام اعتماداً على علاقته الإنتاجية بالبيئة والمجتمع. المنشآت صديقة البيئة التي لا تسهم عملياتها الإنتاجية في إلحاق الأذى بمكونات البيئة الطبيعية، والمنشآت عدوة البيئة التي لا يمكن أن تمارس أنشطتها الإنتاجية دون أن يصدر عنها مخرجات مضرة بالبيئة، وأخيراً المنشآت المالية مضمونة الربح التي تستغل ثروات المواطنين غير المستثمرة وتحقق من خلالها مليارات الريالات سنوياً، وأعني البنوك التجارية.
المنشآت صديقة البيئة
نبدأ بالمنشآت صديقة البيئة، وهي تنقسم إلى منشآت ضخمة ومتوسطة، وصغيرة، وإذا ما استثنينا الصغيرة والمتوسطة منها، فسنجد بإذن الله مجموعة لا يستهان بها من المنشآت الضخمة التي يمكن أن تقدم إسهامات جليلة للمشروع الوطني لخدمة المجتمع. هناك نماذج مشرفة من هذه المنشآت قدمت وما زالت تقدم الكثير دون أن يطلب منها ذلك، تمادا على حسها الوطني الذي دفعها إلى استثمار بعض من أرباحها في خدمة المجتمع. ولكن ماذا عن المنشآت الأخرى؟ أعتقد أن عملية تنظيم مشروعات خدمة المجتمع ودعمها من الجهات العليا قد يدفع بهذه المنشآت إلى المساهمة الفاعلة في مشروعات البر، وهي لن تحتاج مستقبلا إلى من يحثها على فعل ذلك بعد أن تتلمس البركة في أرباحها المحققة نتيجة ما قدمته من أعمال الخير، وبعد أن ترى نتاج مساهماتها في بيئتها الحاضنة.
المنشآت الصناعية عدوة البيئة
المنشآت الصناعية عدوة البيئة، يفترض أن تخضع لقانون صريح يحدد حجم مساهماتها الاجتماعية مقارنة بأرباحها المحققة. في الدول الغربية تعاني شركات النفط والبتروكيماويات من مشاكل كثيرة مع مجالس المقاطعات، والولايات الحاضنة لأنشطتها الإنتاجية، ترغمها، في أحيان كثيرة على الانسحاب من تلك المناطق على رغم ما تقدمه من خدمات مالية ضخمة لخدمة المجتمع. غالبية شركات النفط والبتروكيماويات تدفع جزءاً لا يستهان به من أرباحها لخدمة المجتمع لمواجهة الضغوط الرسمية، الإعلامية، الاجتماعية، والبيئية، وهنا أضرب مثالاً بعلاقة شركة أرامكو السعودية مع العالم الغربي وكيف سارعت إلى بناء بعض المساكن الخاصة للمتضررين من الأعاصير التي ضربت الولايات المتحدة الأميركية العام الماضي كنوع من أنواع العلاقات العامة المضادة.
يمكن للمراقب الحذق أن نلاحظ الطلب الكبير من الشركات الغربية على إنشاء مصانع البتروكيماويات، الأصباغ، المبيدات الحشرية، وبعض المواد الخطرة في العالم النامي الذي لا يتمتع بقوانين صارمة لحماية البيئة. مثل هذه الشركات الضخمة لا تبحث عن تنمية الدول بقدر ما تبحث عن مصالحها الخاصة وإن تعارضت مع سلامة البيئة وصحة الإنسان. طالما أننا اقتنعنا بوجود مثل هذه الشركات في بيئتنا المحدودة فيفترض أن نضع الأنظمة والقوانين التي يمكن من خلالها إرغام هذه الشركات على تخصيص جزء من أرباحها لخدمة المجتمع.
في الوقت الحالي يمكن أن تكون لدينا خسارة مزدوجة على المستوى العام، فالمصانع عدوة البيئة تعمل على تدمير البيئة المحلية وصحة الإنسان في الوقت الذي تتكبد الدول الأموال الطائلة لمعالجة أضرارها الصحية القاتلة، ومنها أمراض السرطان، أمراض الصدر، أمراض الجلد، التشوهات الخلقية، والإجهاض المستثمر. عندما نرجع إلى مساهمة بعض الشركات المصنفة ضمن قائمة (المنشآت المضرة بالبيئة) نجدها شبه معدومة، إن لم تكن معدومة حقا، ما يشجع على تأييد فرضية مطالبتها رسميا بتحمل دورها الاجتماعي ضمن الإستراتيجية الشاملة.
المنشآت المالية
أما المنشآت المالية (البنوك) فهي المنشآت التي تحقق أرباح خيالية اعتماداً على أموال المواطنين غير المستثمرة والمودعة فيها بقصد الأمانة. في الدول الغربية لا مجال لوجود الأموال معدومة الفائدة، فجميع الودائع البنكية تستحق فوائد مباشرة يخصم منها ضرائب الدولة التي يمول بعضها مشروعات خدمة المجتمع، ومع ذلك تقوم البنوك أيضاً بتقديم خدمات جليلة للمجتمع الذي تعمل من خلاله، خاصة في مجالات التعليم، الصحة، ودعم الأبحاث العلمية وتبنيها. في السعودية هناك حجم ضخم من أموال المودعين التي لا (يَستَحِلون) فوائدها لأسباب شرعية، تحقق من خلالها البنوك الكم الأكبر من أرباحها السنوية وتحجم في الوقت نفسه عن إرجاع بعض منها لخدمة المجتمع. هناك بعض المصارف تستغل أموال (التطهير) التي تُفرض عليها من هيئاتها الشرعية لترويج تبرعاتها للمجتمع دون الإشارة إلى مصدر هذه الأموال.
الحقيقة أن المصرف لم يقدم الهبات والتبرعات بقدر ما تخلص من أموال محرمة بأمر من الهيئة الشرعية، وشتان بين التبرعات والهبات، وبين إخراج أموال تطهير العمليات المحرمة شرعا!!.
يفترض أن تكون هناك نسبة محددة تفرضها الجهات الرسمية على الودائع الحرة (التي لا تستحق الفوائد) توجه لمشروعات خدمة المجتمع وإن كانت بإدارة البنك نفسه. لم يعد الحرج موجوداً في قبول مثل هذه الأموال على أساس أن معظم البنوك العالمية أصبحت تقدم الأرباح الإسلامية الشرعية على الحسابات الجارية، وهي موجودة أيضاص في السوق السعودية، فلا مجال للريبة والشك في مثل هذا الأمر. المواطنون أولى بالاستنفاع بأموالهم من مجالس الإدارات والمساهمين، والشأن العام أولى وأبقى من المصالح الخاصة.
أختم بالتأكيد على أهمية دعوة الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين ورئيس مجلس الأمناء في مركز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة للقطاع الخاص بتبني (المشروع الوطني لخدمة المجتمع) من باب شكر النعمة ورد الجميل للوطن، إلا أنني أؤكد أيضا على أهمية ممارسة الدور التوجيهي الذي يمكن أن يَحمِل المنشآت المحجمة عن (الشكر ورد الجميل للوطن ) على تحمل مسؤولياتها الاجتماعية وفق الأنظمة والقوانين، وضمن الإستراتيجية الوطنية الشاملة لخدمة المجتمع التي أتمنى أن يتولى أمرها الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز لتكون الجوهرة العظيمة التي تزين تاج العمل الاجتماعي في مملكة الإنسانية.
f.albuainain@hotmail.com