جاء في صحيح مسلم أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال (يقول ابن آدم مالي مالي... وهل لك يا ابن آدم ?من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت ?فأمضيت) وهو حصر تام لعلاقة المؤمن بماله الذي أنعم به الله عليه، وإشارة واضحة إلى أن البقاء والنماء في الصدقة. ومن الصدقات الباقية ما يقدمه المؤمن لنفسه من أعمال البر والخير وإن صغر حجمها؛ فالله كفيل بتنميتها ومضاعفتها أضعافا كثيرة؛ قال تعالى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)؛ وهل هناك أكثر برا من بر المجتمع الذي ينتمي له الإنسان ويعيش بين أفراده، الأغنياء منهم والفقراء، المرضى والأصحاء، المبتلين وذوو الحاجات الخاصة. لكل هؤلاء حق أوجبه الله سبحانه وتعالى على عباده، وحق المسكين أعظم، قال تعالى: (وأعطوا المسكين حقه).
من هذا المنطلق الإسلامي الكريم أطلق الأمير الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين ورئيس مجلس الأمناء في مركز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة، دعوته إلى تبني مشروع وطني لخدمة المجتمع يتولى تنفيذه القطاع الخاص على أساس المسؤولية الاجتماعية التي تفرض على القطاع الخاص رد الدين للوطن. الأمير سلطان بن سلمان أشار خلال المحاضرة التي نظمتها إدارة خدمات المجتمع في الغرفة التجارية الصناعية في الرياض إلى حق الوطن الذي هيأ لرجال الأعمال البيئة الأمنة، والدعم الاقتصادي الذي قادهم إلى الإبداع والتوسع في الإنتاجية وتنمية الثروات؛ وتساءل: (ألا يكون هذا الأمن والأمان واستمرار دوران عجلة الاقتصاد والنمو وزيادة الربح وتنامي الثروة حافزا ودافعا لأصحاب الأموال على شكر النعمة ورد الجميل للوطن، والمسارعة لعمل الخير وتبني مشاريع لخدمة المجتمع والمعوزين وبرامج ما يسمى بالمسؤولية الاجتماعية التي ترعى الفئات المحتاجة وتسهم في تحسين وتجميل المجتمع والبيئة وتوفير الخدمات، استكمالاً لجهود الدولة التي لا تبخل بالعطاء والإنفاق للرقي بالوطن والمواطنين). لقد من الله سبحانه وتعالى على قريش وذكرهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى إلا أن الله سبحانه وتعالى اختار لهم من نعمه الكثيرة الأمن والتجارة، فقال في محكم كتابه الكريم (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ. إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). وقد خص سيدنا إبراهيم عليه السلام، الأمن والرزق، في دعوته المباركة، قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ أمن مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). فالأمن أحد نعم الله على عباده، لا يشعر به إلا من فقده، ومن خلاله أفاء الله على هذه البلاد وأهلها بالخير الكثير، فكان سببا من أسباب النماء للفرد والمجتمع أما توفير البيئة الاستثمارية الداعمة لتنمية الأفراد فهي القاعدة التي انطلق منها رجال الأعمال نحو بناء المشروعات وتنمية الثروات في جو من الحرية والاستقلال التام، وهو ما يُوجِب عليهم المساهمة النشطة في خدمة المجتمع ورد الدين له. بالشكر تدوم النعم، والصدقة الخالصة تزيد المال وتنميه، وما أنفق المؤمن من مال إلا عوضه الله بخير منه. قال تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وروي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قوله: (ما نقصت صدقة من مال)، وقال أيضا (?ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة ?تربو ?في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم ?فلوه ?أو ?فصيله). دعوة الأمير سلطان بن سلمان للقطاع الخاص بتحمل مسؤولياته نحو المجتمع اعتمدت على هذه المضامين الإسلامية المباركة؛ هي دعوة كريمة إلى كرماء هذه البلاد الطيبة الذين لن يترددوا عن بذل الخير وإرضاء الرب بصدقاتهم المباركة.
موضوع (الوقف الإسلامي) كان محورا إضافيا لحديث الأمير سلطان بن سلمان للصحفيين، إلا أنه يبقى أحد المحاور المهمة التي يفترض أن يدفع نحوه العلماء، ورجال المال والأعمال نظرا لما يمثله الوقف من أهمية قصوى للفرد والمجتمع، ونحمد الله أن وفق القائمين على جمعية الأطفال المعاقين للاهتمام به من خلال لجنة الوقف الخيري التي بدأت في ممارسة أعمالها وأنشطتها الخيرة الهادفة إلى تنميته على أسس علمية.
أهمية الوقف في الإسلام، وفوائده العظيمة على المجتمع قادت ولاة أمر هذه البلاد إلى الاهتمام به وتأصيله والعمل على إحيائه وفق منهجية علمية تكفل له النجاح، وللمجتمع الفائدة والاستنفاع. ولعلنا نشير هنا إلى وقف الملك عبدالعزيز للحرمين الشريفين بمكة المكرمة، أحد أهم الأوقاف السعودية عطفا على موقعه الشريف، وأسلوب إحيائه، إدارته، وتقسيم ريعه، وتكلفته الضخمة التي بلغت ملياري ريال سعودي. خلافا لما يحققه المشروع من إحياء لسنة الوقف الخيري في المجتمع المسلم، فإنه سيحقق، بإذن الله، أهداف محورية أخرى ومنها خدمة حجاج بيت الله الحرام، والتوسيع عليهم، وتوفير السكن المناسب، وتطوير ساحات الحرم المكي الشريف، وتجهيز الأنفاق والطرق إضافة إلى هدفه المحوري بوقف إيراداته المالية للصرف على الحرمين الشريفين، وأعمال البر الأخرى.
ومن الأوقاف المهمة أيضا وقف الملك عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه في المدينة المنورة الملاصق لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الأوقاف التي إهتم ببنائها ولاة الأمر وآخرون من أبناء هذه البلاد الطيبة.
أعود إلى (المشروع الوطني لخدمة المجتمع) الذي ناد به الأمير سلطان بن سلمان، ودعوته للقطاع الخاص (رجال المال والأعمال) بتحمل مسؤولياتهم تجاه المجتمع، وقبل أن أتحدث عن القطاع الخاص أشير أولا إلى بعض النماذج المشرفة لمؤسسات خيرية خاصة أخذت على عاتقها تقديم برامجها للمستفيدين بأسلوب حضاري متميز يدعم الإستقرار والإنتاجية وتنمية المهارات الفكرية والتعليمية، مؤسسات تجاوزت في خدماتها تقديم المساعدات التقليدية إلى تقديم البرامج الاجتماعية المتنوعة التي تهدف إلى تنمية الفرد والمجتمع وتحويل الأسر المحتاجة إلى أسر منتجة بإذن الله. ومن هذه المؤسسات:
مؤسسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للإسكان التنموي التي أسهمت بشكل كبير في تأهيل الأسر المحتاجة وتوفير المساكن الخاصة لها خاصة في القرى والمناطق النائية. الملك عبدالله بن عبدالعزيز تكفل بتقديم أكثر من ملياري ريال سعودي لمشروعات مؤسسته الخيرية، ولعله يكون أكبر تبرع فردي في تاريخ العمل الاجتماعي بالمملكة. آلاف الوحدات السكنية شرع في بنائها، تم تسليم بعضها والبعض الآخر ما زال في طور الإنشاء. المؤسسة بدأت في توسيع نشاطاتها وتنويع خدماتها وفقا لحاجة المجتمع الملحة. مما يميز مؤسسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ضخامة مشاريعها الإسكانية، وانفتاحها على مناطق المملكة، وتركيزها على المناطق الأكثر حاجة لمشاريعها الخيرية.
ومن المؤسسات الرائدة أيضا مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية التي اختيرت من قبل منظمة (المحسنين الدولية) ومقرها بريطانيا، كأفضل منظمة إنسانية عربياً وإسلامياً. المؤسسة ركزت في أنشطتها على توفير الرعاية الاجتماعية والصحية والتأهيل الشامل للمعاقين وإيجاد دور للنقاهة والتأهيل والتمريض، وبناء المستشفيات، وتوفير الإمكانات اللازمة لإجراء الأبحاث في مجال الخدمات الإنسانية وغيرها من الخدمات الاجتماعية. ومن أهم مراكزها: مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية، ومركز سلطان بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وهو مركز يماثل في مستواه المراكز العلمية العالمية المتطورة؛ ومشروع مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية للإسكان. ومن برامج المؤسسة المهمة برنامج سلطان بن عبدالعزيز للاتصالات الطبية والتعليمية (ميديونت)، برنامج مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز للتربية الخاصة، وبرنامج الدراسات العربية والإسلامية. وكلها برامج وأنشطة خيرية موجهة لخدمة المجتمع.
وهناك أيضا مؤسسة الملك فيصل الخيرية المؤسسة الرائدة في مجالات البحث والعلوم، والمساعدات الإنسانية وخدمة المجتمع. لم يقتصر دور المؤسسة على المجتمع السعودي فحسب بل تعداه إلى العالمين العربي والإسلامي. منذ البداية إعتمدت المؤسسة في تمويل مساهماتها الاجتماعية على استثماراتها الخاصة، حيث قُسم هيكل أنشطة المؤسسة التنظيمي إلى فرعين أساسيين وهما النشاطات الخيرية، والنشاطات الاستثمارية، ما ساعد في وصول المؤسسة إلى مرحلة متقدمة من الملاءة المالية القائمة على ريع الاستثمارات الضخمة وهو أمر غاية في الأهمية لضمان الإستمرارية والتوسع في تقديم أعمال البر.
لدينا من فضل الله وبركته الكثير من المؤسسات الخيرية الخاصة الممولة بمجهودات فردية، والمهتمة في تقديم الخدمات الخيرية والإنسانية للمجتمع؛ تطورت مع مرور الوقت حتى أصبحت من الركائز الأساسية لتقديم خدماتها لشريحة واسعة من المواطنين والمقيمين على حد سواء. ولكن ماذا عن قطاع الشركات والمصارف وعلاقتها ب(المشروع الوطني لخدمة المجتمع)؟
هذا ما سنتطرق له في الأيام المقبلة بإذن الله.
f.albuainain@hotmail.com