قدّر سوق الأسهم السعودية أن تتحكم فيها سيولة المجموعات وبعض كبار المضاربين. وبدلاً من أن يسمح لها بالتحرك وفق نتائج التحليل الفني والأساسي، نجدها تتجاوب كثيراً مع خطط المضاربين وتوجهاتهم . صغر حجم السوق هو الذي سمح بالسيطرة عليها من خلال التحكم في أسهمها القيادية المؤثرة، أو الاستحواذ على أسهم المضاربة ودفعها لتحقيق المكاسب الضخمة على حساب صغار المستثمرين.
جرت العادة أن يتحرك المستثمرون في الأسواق المالية وفق التحليلات الفنية والأساسية، فيحددون نقاط الدخول والخروج حسب الأرقام الدقيقة التي تجنبهم الكثير من المخاطر. السوق السعودية تمثل شذوذ القاعدة على أساس أنها تتحرك وفق نظرية (القاعدة المقلوبة) وأعني أن تحدد المجموعات Groups أو بعض كبار المضاربين أهدافهم الربحية بعناية ثم يبدؤون في وضع خطة توجيه السوق من خلال المؤشر وأسعار الأسهم المستهدفة؛ أي أنهم يبدعون في رسم أرقام المؤشر، وأسعار الأسهم وفق نقاط الدعم والمقاومة المطلوبة، بحسب توجهات البيع أو الشراء مما ينتج عنه ظهور البيانات المضللة للمحترفين أنفسهم قبل الهواة.
وبعيداً عن الإمكانات المتاحة للبشر، فإن برامج أجهزة الكومبيوتر المتخصصة في أسواق المال التي يفترض فيها الدقة المتناهية يمكن أن تصدر معلومات مضللة بناء على البيانات المستقاة مباشرة من نظام (تداول)! أي أن الأمر لا علاقة له بالشائعات بقدر ما هو مرتبط ارتباطاً كلياً بعمليات التدليس والتضليل التي تمارس على نطاق واسع ضمن الأطر القانونية لسوق المال. لا تناقض في الأمر، وإن استُخدِمَت فيه الكلمات المتضادة!
أعلم أنه من غير المنطق أن تحدث عمليات التدليس والتضليل في ظل القانون، أو كما أشرت سابقاً (ضمن الأطر القانونية لسوق المال) على أساس أن القانون يفترض فيه منع عمليات التدليس ومعاقبة مرتكبيها، وهذا منطق لا خلاف فيه، إلا أن التجارب اليومية أثبتت وجود كم هائل من عمليات البيع والشراء النظامية التي تنفذ من أجل تحقيق أهداف مخالفة للقانون ويمكن إدراجها ضمن عمليات التدليس.
من تلك العمليات قيود شراء بعض الأسهم القيادية قبيل وقت إغلاق السوق بثوانٍ معدودة بهدف التأثير على مؤشر الأسعار وإغلاقه عند نقطة محددة بغض النظر عن حركته الفعلية خلال ساعات التداول؛ ومنها أيضا عمليات الشراء الضخمة على النسب القصوى ثم عرض بعضها على النسب الدنيا بغية التاثير على مجريات السوق. مثل هذا القول ينطبق أيضا على بعض أسهم شركات المضاربة التي عادة ما تخالف حركة السوق في تداولات الدقائق الأخيرة بطريقة غريبة تسمح لقيمها في بعض الأحيان بالانتقال من النسبة الدنيا إلى نسبتها القصوى في لمح البصر!!
وبالرجوع إلى القيود اليومية نجد أن عمليات البيع والشراء عادة ما تكون متوافقة شكلاً مع نص أنظمة هيئة السوق المالية، إلا أنها تختلف في مضمونها وأهدافها مع روح النظام وأهدافه السامية الرامية إلى تحقيق العدالة والكفاءة، والمحافظة على استثمارات المواطنين.
صغر حجم السوق السعودية أمكن بعض كبار المضاربين من السيطرة عليها ورسم مسارها الفني بطريقة محكمة يهدف من خلالها إعطاء صورة مخالفة لحركة السوق. وهذه الجزئية بالذات هي التي حدت بأحد خبراء التحليل الأوروبيين إلى ترك عمله لأسباب تتعلق بكفاءة السوق ونزاهتها!
من الملاحظات الدقيقة التي أشار لها خبير التحليل قبيل مغادرته: (أن مخرجات التحليل لا يمكن الوثوق بها في السوق السعودية نظراً لصغر حجمها وتحكم القلة فيها)، مضيفاً (أن الأسواق المالية تسير غالباً بحركة متجانسة مع مخرجات التحليل، إلا أن السوق السعودية قلبت المعادلة وسمحت للقلة برسم حركة السوق المستهدفة قبل حدوثها، وهو ما يؤدي إلى دفع الآخرين إلى اتخاذ القرارات الخاطئة اعتماداً على المعلومات المضللة!!).
إحدى الصحف السعودية أشارت إلى مشادة كلامية حدثت في (البالتوك) بين اثنين من مضاربي سهم (....) حول مقدرتهما الخارقة في توجيه سعر السهم المتنازع عليه. في اليوم التالي شاهد الجميع المنافسة الحادة بين مضارِبِيّ السهم. وللأسف الشديد فقد كانت الغلبة لمن أكد على إغلاق السهم على النسبة الدنيا وإعادته إلى مستوياته السعرية السابقة من خلال إغراقه السوق بعروض البيع المهولة.
الأمر لا يقتصر على المنافسة بين المضاربين، أو النزاع بشكل أدق، بل يتعداه إلى استعراض القوة في رسم إغلاق المؤشر بأرقام متشابهة، أو كما يطلق عليها مصطلح (الأرقام المميزة) في ثقافة (المُحْدِثين)!
هذه الثقافة التي لا يمكنها الفصل بين مصالح الاقتصاد، وبين (نرجسية الأنا) ورغبات الكسب والتميز هي التي قادت السوق السعودية نحو الهاوية، وهي التي أسهمت في خلق الانهيارات المتكررة التي أودت بمدخرات المواطنين.
ما يحدث في سوق الأسهم السعودية أكبر من أن يُربط بمواقع الإنترنت المروجة للشائعات، أو بتدني مستوى الثقافة الاستثمارية لدى صغار المستثمرين، أو بعمليات البيع الانقيادية. مما يحدث في سوق الأسهم السعودية ما هو إلا جزء لا يتجزأ من عمليات التدليس الطاغية على مجريات التداول فالعبرة في الغاية والأهداف لا بالوسيلة. لذا أنصح بعدم إضاعة الوقت في تدقيق في مواقع الإنترنت، وملاحقة مروجي الشائعات، والاستعاضة عنها بالتركيز على الصفقات الضخمة التي يمكن لها أن تقلب مسار السوق الصاعدة إلى الضد، أو أن تُحَوِل النسب القصوى إلى الدنيا خلال ثوانٍ معدودات. إحكام القبضة على المدلسين يمكن أن تنقل السوق إلى مرحلة متقدمة من الاستقرار الباعث على الطمأنينة، وكسب ثقة المستثمرين.
f.albuainain@hotmail.com