لم أكن مخطئاً عندما ذكرت في مقالة سابقة بأن (القمة العربية محظوظة أن تعقد في كنف المملكة العربية السعودية، وأن يتولى رئاستها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، قلب الأمة النابض، الذي شهد له التاريخ حرصه على وحدة الصف، ونبذ الفرقة، والسعي في ركب المصالحة العربية الشاملة، ودعم كل ما من شأنه الرفعة والعزة للإسلام والمسلمين).
كشفت قمة الرياض عن إصرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على السعي بالأمة نحو بر الأمان، متجاوزاً جميع الخلافات وترسبات الماضي.
نجحت القمة بشهادة المحايدين، وتجاوزت معظم العقبات الرئيسة، وكان لقيادتها الحكيمة دور فاعل في تحقيق النجاح. لم يترك الملك عبد الله موضوع الخلافات العربية، والتوجس الذي عادة ما يسيطر على عقول بعض القادة العرب لاجتهادات المؤتمرين، بل أصر على توضيحه رسمياً في خطاب الافتتاح حين قال: (ولا ينقصنا إلا أن نطهر عقولنا من المخاوف والتوجس، فلا يحمل الأخ لأخيه سوى المحبة والمودة، ولا يتمنى له إلا الخير الذي يتمناه لنفسه) وهو بذلك يؤكد على النهج القويم الذي تنتهجه المملكة العربية السعودية في علاقاتها الأخوية المبنية على تعاليم الدين الحنيف، ويشير إلى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
كثيرة هي المواقف العربية المتشنجة التي بنيت على توجسات وشكوك وأدت إلى زرع بذور الفرقة بين الزعماء العرب مما ساعد على خلق المنطقة الرمادية المحببة لمثيري الفتن، ومفسدي العلاقات الأخوية، وأسهمت في تأخر البناء والدعم وكسب ثقة الشعوب العربية، وتحقيق طموحاتها.
كان الملك شفافاً كعادته حين قال: (إن اللوم الحقيقي يقع علينا نحن قادة الأمة العربية، فخلافاتنا الدائمة ورفضنا الأخذ بأسباب الوحدة، كل هذا جعل الأمة تفقد الثقة في مصداقيتنا وتفقد الأمل في يومها وغدها)، مواجهة الحقائق ونقد الذات هما السبيل الأمثل لعلاج القضايا العربية الشائكة. اعتادت القمم العربية السابقة على إثارة الرأي العام العربي من خلال المناوشات التي تحدث بين المؤتمرين، أما قمة الرياض فقد شقت لنفسها خطاً آخر أكثر اعتدالاً وتأثيراً في الرأي العام العالمي.
قرارات القمة، وخطاب الملك الشفاف أظهرا رغبة العرب الملحة في تحقيق السلام، وكشفا عن روح التضامن العربي الذي تهيأت له الظروف في مملكة الإنسانية والسلام.
اللقاءات الجانبية بين الزعماء كان لها أكبر الأثر في توضيح الرؤى، وتليين المواقف المتشددة التي كان من الممكن أن تجر المنطقة إلى ويلات الدمار، قضية السلام، والمبادرة العربية، كانت محور اهتمام الرأي العام الغربي.
الشارع الإسرائيلي خرج في مظاهرات مؤيدة لمبادرة السلام العربية وكان لافتاً رفع المتظاهرين العلم السعودي، والأعلام العربية أمام المقرات الرسمية الإسرائيلية تأييداً لتوجهات السلام.
أعتقد أن قمة الرياض أطلقت قطار السلام العربي المشترك، وعليها أن تتأكد من وصوله نقطة النهاية.
الموقف السياسي الشجاع الذي اتخذه الملك عبد الله يُفترض أن يفعل من جميع جوانبه، وألا يسمح بالعقبات المفتعلة أن تقف في طريق تنفيذه وإقراره مستقبلاً بحول الله.
الدور السعودي الفاعل والمؤتمن، وجد ليبقى لذا أرجو ألا يتوقف أمام عقبة الاجتماعات المباشرة مع أطراف النزاع، فالسعودية خير من يمثل العرب فيها، ولا ضير في عقد جلسات المفاوضات الجماعية لما فيه مصلحة العرب والإسلام والمسلمين.
أخشى أن أختم قبل أن أتطرق للشأن الاقتصادي الذي كان علامة بارزة في قمة التضامن، وإن لم تُستكمل قراراته النهائية بعد، إلا أنه يبقى محور اهتمام القادة نظراً لما يمثله من أهمية قصوى للشعوب العربية، كإقامة الاتحاد الجمركي، تطبيق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، مشروع إستراتيجية التنمية الزراعية المستدامة، تحرير تجارة الخدمات، الربط الكهربائي العربي، السياحة، وتطوير آليات الدعم الاقتصادي المشترك.
قضايا اقتصادية حساسة، بعضها قارب على الانتهاء والبعض الآخر ما يزال تحت طور التفاهم المشترك الذي نأمل أن يكتمل قبيل انتهاء الدورة الحالية بإذن الله تعالى. ما زلت أعتقد أن القضايا الاقتصادية يمكن أن تكون الوسيلة الناجعة لحلحلة بعض المواقف السياسية المتأزمة، ولكسب تأييد الشعوب التي باتت أكثر حرصاً على شؤونها الحياتية من قضاياها السياسية الخارجية.
عوداً على بدء، فقد أثبتت قمة الرياض أن الموقف العربي الموحد يحتاج إلى قيادة تتصف بالحكمة والنزاهة والقبول، يمكن لها أن تدفع نحو السلام والتنمية وتصفية الأجواء العربية وتطهيرها من قضايا الخلاف المشتتة للجهود، وقد أثبتت الأيام أن السعودية هي خير من يقوم بهذا الدور الحساس مشاركة مع الدول الفاعلة التي يمكن أن تشكل مجتمعة فريق عمل موحد قادر على توحيد الصف والكلمة وانتزاع الحقوق العربية من خلال الطرق الدبلوماسية المشروعة.
f.albuainain@hotmail.com