يقول لي أحد الاخوة وهو يعتصره الألم: إن الكثير من المنظمات الخيرية أو غير الربحية تعمل بكفاءة ضعيفة مقارنة بالإمكانات المتاحة لها لأسباب فكرية وهيكلية وهو ما يضعف مساهمتها في إجمالي الناتج المحلي، كما يحرم المجتمع من نتائج أعمالها الإيجابية التي تتناسب وحجمها والإمكانات المتاحة لها، مؤكدا أن بالإمكان أفضل مما كان بعشرات المرات، لو أنها عملت بفكر إداري ومالي وتسويقي وتشغيلي متطور وهيكلة سليمة وعمليات أو إجراءات تنفيذ (Process) فعالة.
ولقد أسهب هذا الرجل في تعديد الإمكانات المتاحة لمؤسساتنا الخيرية التي تتمثل في الدعم المالي والمعنوي الكبير من ولاة الأمر حفظهم الله والتبرعات السخية من أفراد المجتمع السعودي الكريم والإمكانات التعاونية المهولة التي يمكن لمثل هذه المؤسسات الحصول عليها لو أنها حفزت القائمين على الجهات الممكن تعاونها للتكامل في تحقيق الأهداف المشتركة من خلال المزيد من التعاون والتنسيق المنظم القائم على تحقيق المصالح المشتركة لا بتحقيق مصلحة طرف على حساب الآخر.
وكوني مطلع على الكثير من هموم المؤسسات الخيرية فإني على ثقة بما يقوله هذا الرجل حيث إن معظم مؤسساتنا الخيرية بكافة مجالاتها وأحجامها تعاني من ضعف فكري وسلوكي في تخطيط وتنفيذ الأعمال الخيرية وتعظيم نتائج الإمكانات المتاحة للحصول على الفائدة المثلى، ذلك بأن إدارتها عادة ما تقوم على نيات حسنة أكثر من أنها تقوم على معارف ومهارات وخبرات إدارية ومالية وتسويقية وفنية، وهذا الضعف أدى لضياع الكثير من الطاقات والإمكانات بشكل أسفر عن تحقيق نتائج متواضعة أو هزيلة إن لم تكن نتائج عكسية لا تحمد عقباها، والأدلة كثيرة وليس هذا مجال حصرها، وكل ذلك انعكس سلباً بالنتيجة على مستوى عطاء الميسورين من أصحاب الأيادي البيضاء.
إن نبل المقصد لا يكفي للخروج بنتائج تخدم الهدف من إنشاء تلك الجمعيات إذا لم يعزز بسلامة المنهج، وسلامة المنهج تقتضي تطبيق منهجيات علمية حديثة أثبتت كفاءتها ونجاحها في رفع كفاءة المؤسسات الخيرية بزيادة قدرتها على تعظيم نتائج الإمكانات المتاحة، كما تقتضي اختيار الموارد البشرية الكفؤة لهذا العمل، باعتبار الكفاءة عنصراً حاسماً على نفس درجة وأهمية عنصر الأمانة الذي عادة ما يقدم على عنصر الكفاءة الذي يتراجع في الصفوف الخلفة رغم أهميته (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ )
ولا شك أن غياب الفكر الإداري والمالي وما ترتب على ذلك من سلوكيات إدارية ومالية غير منطقية لا تتفق وآليات السوق في معظم المؤسسات الخيرية أدى لوقوع هذه المؤسسات في أخطاء إستراتيجية، ولا أقول تكتيكية، أخطاء أفضت لضعف شديد في كفاءة هذه المؤسسات مما أضعف مخرجاتها بالمحصلة رغم نبل مقاصدها وعظم إمكاناتها التي يمكن أن تدخل في متتالية القوة والنمو لو تم الاستفادة منها بشكل سليم بدل أن تدخل في متتالية الضعف والضمور كما هو حاصل الآن، حتى بات الكثير من القائمين على المؤسسات الخيرية يشتكون من ضعف الإمكانات دون أن يعلموا بأنهم هم ذاتهم جزء كبير من مشكلة ضعف المؤسسة الخيرية التي يعملون بها (نعيب زماننا والعيب فينا).
ومن أهم تلك الأخطاء الإستراتيجية شيوع ثقافة الاستجداء بين كل موظفي أي مؤسسة خيرية بجميع مستوياتهم من أعلى إلى أسفل الهرم الوظيفي، مما جعلهم ينفذون الأعمال التي تعد من صميم عمل المؤسسة الخيرية (المهام التي من أجلها أنشئت المؤسسة) بنفس استجدائي أثر سلباً وبعمق في جودة هذا العمل، مما جعل هذه المؤسسات الخيرية تعجز عن تحقيق أهدافها في الوقت المناسب وبالجودة المثلى، وأعتقد بأنه حان الوقت للفصل التام بين إدارة الموارد المالية وبقية الإدارات من ناحية، كما حان الوقت للقضاء على ثقافة الاستجداء في كافة الإدارات بما في ذلك إدارة الموارد المالية من ناحية أخرى، والاتجاه لثقافة السوق من خلال تطوير الخطاب الإعلامي القائم على فكر السوق الذي يقوم على إيجاد أرضية لتحقيق المصالح المشتركة للمؤسسة الخيرية وللطرف المتبرع مهما كانت صيغة هذا التبرع وأهدافه.
ختاماً أود أن أقول: إن بلادنا وهي تحتضن أكثر من ثلاثمائة وتسع وخمسين جمعية خيرية تنعم بدعم كبير من لدن خادم الحرمين الشريفين أيده الله وولي عهده الأمين وأصحاب السمو أمراء المناطق ومن دعم سخي من رجال العطاء الميسورين من أبناء الشعب السعودي الكريم، أقول: إنها تستحق أن نجعل من هذه الجمعيات وسائل فعالة في تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة بالتكامل مع القطاعين العام والخاص، ولكي يتحقق هذا فإن على القائمين عليها أن يرفعوا سقف مسؤولياتهم أولاً ويتخلصوا من فلسفاتهم وانطباعاتهم الشخصية ثانياً، وأن يعتمدوا على المنهجيات العلمية المجربة والناجحة ثالثاً، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تكييفها للتناسب مع الواقع السعودي من خلال التفكير والعمل الجماعي لكي تؤتي هذه المؤسسات أطيب ثمارها بإذن الله.
alakil@hotmail.com