يفخر أحد رجال الأعمال السعوديين بأن مؤسسته ليست مطلوبة لأحد ولو بريال واحد، فهو يمول أعماله من خلال رأس مال الشركة التأسيسي، وما ينتج منه من إيرادات يعيد تدويرها في تطوير الإنتاج وتوسيع الأعمال، فقلت له إن ما تفخر به دليل كبير على ضعف شديد بالفكر والسلوك المالي في مؤسستكم الموقرة، مما أدخلني وإياه والحضور في جدلية أبرزت لي مدى ضعف الثقافة المالية في مجتمعنا السعودي عموماً، ومجتمع الأعمال منه على وجه الخصوص.
ما أسباب هذا الضعف؟ باعتقادي أن نشأة العمل التجاري المؤسسي المدعوم من الدولة مالياً وحمائياً.. أدى إلى بناء ثروة عدد من رجال الأعمال السعوديين دون الحاجة للغوص في الفكر الإداري والاقتصادي والمالي أدى إلى ضحالة الفكر في هذه المجالات، وهو ما أفضى بطبيعة الحال إلى مثل هذا التفاخر المذموم الذي سبب لدي صدمة كبيرة، إذ استغربت بشدة من يتفاخر بضعف فكره المالي دون أن يعلم.
نعم حين سعينا لبناء قطاع خاص سعودي وتطويره يكون شريكاً للقطاع الحكومي في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في البلاد.. لم نفكر كثيراً في الآليات التي تمكننا من ذلك واختيار الأمثل منها الذي سيكون له آثار إيجابية مصاحبة على المدى الطويل. لذا اتبعت أيسر الآليات المتمثلة بتقديم الدعم المالي السخي والحمائية الشديدة، حيث قامت الدولة بضخ المليارات في صناديق التنمية، وأقرضت القطاع الخاص المال بكل سهولة ويسر، وقدمت لهم التسهيلات والحماية والإعانات والتفضيلات إلى غير ذلك من الأمور التي جعلتهم يحصدون الأرباح، ويحققون النمو الكبير بما هو متاح لديهم من أفكار وإمكانات متواضعة، مما كان له أكبر الأثر في الاسترخاء الفكري والسلوكي وعدم الاهتمام بضرورة تطوير الفكر والسلوك الإداري والاقتصادي والمالي والتشريعات والأنظمة والإجراءات للاستعداد للمتغيرات المستقبلية حتى دخلنا عصر العولمة، عصر المنافسة الشديدة ورفع كل أشكال الدعم والحماية، ونحن نعمل بالفكر نفسه والتشريعات القديمة البالية.
نشكر الحكومة على مقصدها النبيل وإنجازاها الكبير في إيجاد كيانات اقتصادية خاصة عملاقة، كما نثني على جهود رجال الأعمال السعوديين الذين استطاعوا تحقيق هذه الإنجازات، ولكننا بالوقت نفسه نخشى واقع الظروف الحالية في ظل المعطيات والمتغيرات المستقبلية إذا لم نكن على درجة عالية من المرونة لنعيد تشكيل فكرنا وسلوكنا الإداري والاقتصادي والمالي، ونطور تشريعاتنا وأنظمتنا وإجراءاتنا في الوقت المناسب للتصدي لواقع اليوم والاستعداد لمتغيرات الغد، وهو ما يستدعي بذل جهود كبيرة من رجال الأعمال السعوديين لتقديم الاقتراحات، وبناء النماذج الناجحة، والتنسيق مع الجهات الحكومية المنظمة لتحويلها إلى تشريعات وأنظمة وإجراءات تيسر العمل، وترفع من قدراتنا التنافسية، كما يستدعي من الجهات المنظمة أيضا جهداً أكبر في الاستجابة السريعة لمتطلبات القطاع الخاص لتمكينه من مواجهة المتغيرات المتمثلة بالانفتاح الاقتصادي العالمي والمنافسة الشرسة الناتجة من ذلك.
وأكاد أجزم أن أكبر تحدٍّ يجب التصدي له من القطاعين الخاص والحكومي - وعلى وجه السرعة - يتمثل بتطوير فكرنا وسلوكنا المالي، حيث إننا نواجه شركات غربية عملاقة نشأت وتطورت وتمرست في بيئات رأسمالية شديدة المنافسة تلعب بها قوى السوق الدور الرئيس، مما جعلها تتعمق في فكرها المالي بشكل كبير مكنها من إيجاد آليات متعددة لتوليد رأس المال اللازم للإنتاج وصناعة الثروة، حيث استطاعوا استخلاص رأس المال مما يملكون عن طريق وصف حقوق الملكية وتوثيقها بكل أشكالها وصورها وتمثيلها بأوراق نقدية ومالية، مما رفع قدراتهم التنافسية، حيث يشكل المال عصب الاستمرارية والتطور والتوسع والنمو.
ولا يشك أحد أننا في المملكة العربية السعودية نعاني من عجز شديد في تحويل الملكية إلى رأس مال لأسباب فكرية وأسباب تشريعية ونظامية، مما يفقدنا ثروات مالية كبيرة يمكن لنا أن نولدها مما نملكه من أصول عقارية وعلامات تجارية وحقوق ملكية فكرية.. في حين استطاع الغرب أن يولد المال من كل ما يملكه من حقوق ملكية، وكلنا يعلم أن ذلك مكنهم من استقطاب الأموال من كل الأسواق المالية لقدرتهم على توفير الاستثمار المستقر العوائد لأصحاب المدخرات من خلال توثيق ما يملكونه وتحويله إلى أوراق مالية متعددة الصيغ والهيكلة.
ختاماً سرني كثيراً - كما سر كل اقتصادي ومالي متعمق بالفكر المالي - ما قامت به إحدى الشركات العقارية الرائدة في بلادنا التي استطاعت أن تحول جزء مما تملكه من أصول عقارية وقدرات فنية وتسويقية موثقة من خلال الأنظمة والإجراءات المتاحة إلى صكوك إسلامية (أوراق نقدية) بقيمة 2.25 مليار ريال أقفلتها في زمن قياسي بعد أن طرحتها في أسواق المال العالمية. أقول سرني ذلك لأنه دليل كبير على ارتقاء قطاعنا الخاص لمستوى المسؤولية من ناحية، وإلى المستوى الفكري المالي العالمي من ناحية أخرى.. كما مكنه من تحقيق هذا الإنجاز الكبير الذي أسأل الله أن يكون بداية نقلة نوعية في فكرنا المالي بما يرفع من قدراتنا التنافسية لمواجهة تحديات العولمة باغتنام فرصها وتجنب مخاطرها باعتبارها خطوة رائدة ترفع من درجة ثقتنا بأنفسنا بكوننا قادرين على فعل ما تفعله الشركات الناشئة والمترعرعة في أعرق الأنظمة الرأسمالية إذا نحن بدأنا من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدؤوا.
alakil@hotmail.com