سلكت هيئة السوق المالية في الفترة الماضية نهجاً يتمثل في زيادة الشركات المتداولة في السوق من خلال ضخ العديد من أسهم الشركات غير المدرجة في السوق للاكتتاب العام، ومن ثم إدراجها للتداول بعد ذلك، وكان هدف الهيئة من هذه الخطوة واضحاً ومبيناً في إعلاناتها التي وضحت أن هذه السياسة تهدف إلى (زيادة عمق السوق وتوفير فرص استثمارية للمواطنين).
وقد ثمّن العديد من المتابعين تلك الخطوات ورأى فيها البعض غير ذلك وللوصول إلى تقييم عادل حول نجاح الهيئة من عدمه في الوصول لهدفها من هذه السياسة يركز البعض على معنى (عمق السوق) أو (Market depth)، وهي الجملة التي تعني بلغة الأسواق المالية (مقدار ما يمكن تنفيذه على ورقة مالية ما بهدف تغيير سعرها سواء كان ذلك شراءً أو بيعاً)، وزيادة العمق مطلب مهم لكل الجهات المسؤولة في جميع الأسواق، نظراً لما يرافقه من زيادة في الثقة، وذلك بسبب ما ينتج عن ذلك من سهولة التسييل في هذا السوق على ورقة مالية ما.
ويؤكد الاقتصاديون أن كبح جماح المضاربة العشوائية المسببة لفقدان الثقة يعتبر من أهم الفوائد التي تجني من الزيادة في عمق السوق، وهو بلا شك مطلب تسعى له هيئة السوق المالية من خلال تبني هذه السياسة.
غير أن عدداً من المختصين أبدى تخوفه من هذه الأهداف المرسومة، فالسوق يعاني هذه الفترة من موجة مضاربات محمومة أفقدت الكثير ممن يرغب في الاستثمار الثقة فيه، بل إن الكثير من الشركات المدرجة حديثاً قد ساعدت في هذه الموجة، وانضمت لقائمة شركات المضاربة ذات التذبذب العالي ارتفاعاً ونزولاً، لتزيد في واقع السوق المريض وهي التي استدعيت لتكون دواءً له.
وشكك بعض المحللين في الكثير من خطوات هيئة السوق المالية لزيادة عمق السوق لم يكتب لها النجاح، فبعد خسائر المكتتبين المتكررة جراء علاوات الإصدار المرتفعة جاء تحول الكثير من الشركات الجديدة لقائمة شركات المضاربة ليزيد الطين بلة.
عدد من المحللين أرجع السبب الرئيس في ذلك لقلة الأسهم المطروحة للتداول في معظم الشركات المدرجة حديثاً، مما يسهل على كبار المضاربين عملية الاستحواذ عليها والتلاعب فيها ارتفاعاً ونزولاً، وكمثال لهذا الأمر نجد أن عدد الأسهم المطروحة للاكتتاب في شركات الدريس والحكير وسدافكو والبابطين والبحر الأحمر وصناعة الورق لا يتجاوز 15 مليون سهم، وهو رقم قليل نسبياً بالمقارنة مع الأسهم المطروحة للاكتتاب في شركات أخرى قد أدرجت حديثاً ك(اعمار) و(المتقدمة)، واقترحوا حلاً لهذه المشكلة يتمثل في زيادة نسبة الأسهم المطروحة للاكتتاب بجعلها 60% أو70% عوضاً عن النسب المعمول بها حالياً التي لا تتجاوز ال 40% في أحسن الأحوال، أو الاستغناء عن الشركات الصغيرة والاكتفاء عوضاً عنها بالشركات الكبيرة في رؤوس أموالها، ولا سيما أن هذه الشركات هي الداعم القوي لهدف الهيئة الساعي لزيادة عمق السوق.
هذا الواقع أفرز ضبابية حول مصطلح (عمق السوق) على رأي كثيرٍ من المحللين والمتداولين، منهم الخبير الاقتصادي الأستاذ (فضل أبوعينين) الذي أكد على أن هذا المصطلح الذي يتردد كثيراً في الآونة الأخيرة بحاجة إلى توضيح، وأن تطبيقه بهذه الصورة يتضمن أخطاء عديدة وقال الأستاذ فضل (أصبح مصطلح (عمق السوق) من المصطلحات المطاطة والضبابية التي تستخدم على نطاق واسع في سوق الأسهم السعودية، ولعلي لا أبالغ إذا ما قلت إن هناك إساءة كبيرة لاستخدام هذا المصطلح وربطه بالواقع الحي في سوق المال. الكثير من الأخطاء تحدث في سوق المال بسبب الإصرار على تنفيذ ما يطلق عليه (عمق السوق) بصورة خاطئة. من تلك الأخطاء طرح بعض الشركات المغلقة التي لا تتمتع بمراكز مالية جيدة للاكتتاب العام، وغض النظر عن علاوات الإصدار الضخمة التي تكبدها صغار المستثمرين في مقابل اقتنائهم لأسهمها التي افتتح تداولها بأقل من قيمها الأساسية، والتركيز على زيادة عدد الشركات المدرجة في السوق دون التمعن في القيمة الاستثمارية التي يمكن أن تضيفها تلك الشركات للسوق والمتداولين.
وقال البوعينين يجب أن نرجع إلى بدايات بروز هذا المصطلح في سوقنا المالية وأعني بداية بتضخم أسعار الأسهم الناتج عن ارتفاع معدلات السيولة وقلة عدد الشركات في السوق. بعد أن تعاظمت أزمة التضخم بدأ المراقبون في استخدام هذا المصطلح على نطاق واسع منادين بطرح شركات جديدة يمكن لها أن تستوعب حجم السيولة المتنامي الذي أدى إلى رفع أسعار الأسهم إلى مستويات قياسية بعمليات الطرح للإصدارات الأولية في ذلك الوقت (2004-2005) كان كفيلاً بزيادة عمق السوق لأن أغلب الانحرافات التي كانت تحدث في سوق الأسهم كانت ناتجة عن عرض سيولة عالية مقابل عدد محدود من الشركات.
وأضاف البوعينين للأسف الشديد كان التفاعل سلبياً مع مثل تلك الطروحات، ما أدى بالمؤشر إلى مواصلة الارتفاع وتجاوز 20000 نقطة، ثم حدثت الكارثة، بعد أن استفحل الموقف، ودخلت السوق في مرحلة الانهيار القاتلة، بدأت الجهات الرسمية في فتح ملف عمق السوق وبدأت في طرح الشركات الجديدة للتداول تباعاً ما أدى إلى زيادة حدة الانهيار وطول أمده. للأسف الشديد تمت الموافقة على طرح بعض الشركات المغلقة بعلاوات إصدار مرتفعة أدخلتها في دائرة التضخم قبل الطرح، وأكثر من ذلك سماحها لتلك الشركات بالتحول إلى شركات مضاربة من الدرجة الأولى نتيجة لقلة أسهمها المطروحة للاكتتاب، ومن ثم التداول على أساس أن حصة المؤسسين لا يسمح بتداولها مع بداية الإدراج والتداول.
لذلك نقول إن مصطلح (عمق السوق) استغل من جانبه اللفظي بعد أن فرغ من معانيه الحقيقية وأهدافه الإيجابية، كما أن بداية تطبيق إستراتيجيته الخاصة جاءت في الوقت الضائع، وأعني أنها أتت بعد انهيار السوق، في الوقت الذي كان من الواجب أن تطبق للحد من ارتفاعات السوق الحادة مع بداية العام 2005. عمق السوق يفترض أن يحقق الهدف الأسمى وهو توزيع السيولة على العدد الأكبر من الشركات الضخمة التي يمكن أن تستوعب الرساميل الضخمة دون أن تتحول إلى أداة في أيدي المضاربين. وللأمانة يجب أن نشير إلى أن هناك بعض الشركات التي طرحت للاكتتاب العام أسهمت بالفعل في زيادة عمق السوق كشركة ينساب، سبكيم، المتقدمة، إعمار، إلا أنه العمق الذي لم يكتمل نتيجة ما لحق به من تشويه بسبب أسهم المضاربة الجديدة.
على العموم، يجب ألا نركز في مسألة عمق السوق على زيادة عدد الشركات في سوق الأسهم، بل يفترض أن نسعى إلى فتح قنوات الاستثمار الأخرى، كسوق السندات على سبيل المثال، والتمويل العقاري وهي أدوات أخرى من أدوات زيادة عمق السوق المالية. كل ما أخشاه أن تتحول إستراتيجية (عمق السوق) إلى عملية إغراق واسعة تؤثر سلباً على استقرار السوق وثباته، وأن تكون جسراً معبدا لدخول الشركات الضعيفة إلى سوق الأسهم السعودية).