Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/02/2007 G Issue 12544
مقـالات
الخميس 13 محرم 1428   العدد  12544

الشاعر زكي قنصل.. والحداثة
د/ محمد العيد الخطراوي

هو شاعر مهجري مجدد، ولكنه في الوقت نفسه وفيُّ للتراث في أسلوبه العربي الرصين، وثقافته الإسلامية الشاملة، وهو ضد الحداثة والحداثيين، وفي (الأعمال الكاملة ج3/ص304/ نشر عبدالمقصود خوجة) كتب بهذا الصدد قصيدة بعنوان (الشاعر البورجوازي)، وقدَّم إليها بما يلي:

إلى شعراء الحداثة المزيفة، الذين أوقروا الآذان، وبلبلوا الأذهان، وأغرقونا بالفوضى والشعوذة).. ويبدو من هذا الإهداء أن ما يضايقه من الحداثة مجموعة أمور، هي: ثقل الكلمات، وبلبلة الأفكار، وعدم الاتساق، والإلغاز، يقابلها في التراث العربي جمال وقع الكلمات، وترتيب الأفكار والعبارات، والوضوح، وهو عنيف في تناوله لموضوعه، شديد في هجومه، فهو يطالعنا بقوله:

خلصونا من نكبة الألغاز

أنا يا قوم شاعر برجوازي

ماذا يعني بشاعر برجوازي؟ أي إنه يتخير ألفاظه، ويرتقي بأسلوبه، ولا يتدنى في تعبيره، فلغته لغة السادة من الشعراء:

لا أحب البيان إلا وضيئا

هل يخاض الظلام من دون كاز؟

ما تقولون؟ ما تقولون؟ إني

حائر النفس بين هاذٍ، وهازٍ

إنهم يكتبون بلغة غير مفهومة، ومعميات تنقل المتلقي من متاهات إلى متاهات، ويلج هؤلاء الأدعياء بشعرنا العربي أبواب العجمة، ويسفحون وضوحه على عتبات التعقيد والإبهام:

لست أنحاز للمذاهب، لكن

أنا في حضرة الجمال انحيازي

يخجل الحرف أن يصير أداة

لدعي، ومركبا لانتهازي

طبلكم في (العراق) أو في (دمشق)

أو (رباط) ورقصكم في (الحجاز)

إن تك الضّاد أمكم، فلماذا

تشترون الكلام من (شيراز)؟

وتوجزون فتفسدون العبارة، وتخنقون أنفاس الشعر، وشتان بين الديك والباز في الطيران، وشتان بين حداثي هائم، وتراثي سائم..!!

غيركم إن أفاض أرضى، وأنتم

تخنقون الأنفاس في الإيجاز

لا يروض الآفاقَ كلُّ جناح

بعُدَ الفرقُ بين ديك وباز

عبثا يصلح العجين إذا لم

يتخمّر على يدي خبَّاز

ما تعصَّى على الأصيل بيان

فاطلبوه تروه عند البراز

ثم يطالبهم أن لا يديروا ظهورهم للتراث، فهو مدار اعتزازنا، وليست الحداثة فيما تكتبون من شعر متكلف وألغاز وطلاسم، سرعان ما تموت كما تموت الفقاقيع، وإنما للشعر شوقي وأضرابه:

لا تديروا ظهور كل تراث

لا يوازيه في الثراء مواز

إن يكن عندكم مثارَ حياء

فهو في عرفنا مدارُ اعتزاز

ليس ما تملكون شعرا حديثا

إنه في الكلام محض مخاز

سوف يبقى على الأداهر (شوقي)

وسيطوى دعاة هذا الطراز

ثم ينعى على بيانهم اللين والضعف، وسريان التلوث فيه، وتسرب اللغات الأخرى من لغات الأعداء الذين يتربصون بلغة الضاد الدوائر، ولا يهدأ لهم بال إلا بعد إبادتها وإبادة أهلها:

قد تخنثتُمُ لساناً وفكرا

وتلبستمُ لبوس المجاز

وعلقتم بأذيال قوم

لا يريدونكم لغير المهازي

أنتمُ منهُمُ كما واوُ عمرو

أو عبيد على مواطئ غازٍ

قد يسوقونكمْ بهمز ونخز

ويجل الجواد عن مهماز

أنا يا قوم ثورويُّ ولكن

حولتني ألغازكم برجوازي!!

ويعود إليهم مرة أخرى في قصيدة بعنوان (يا شاعر الألغاز) (ص36- ج2/الأعمال الكاملة) فيحمل عليهم حملة شعواء، ويسفه أشعارهم، ويعيبهم بعدم الإفصاح، ويلومهم على ما يرتكبونه من معميات وطلاسم:

ماذا تقول؟ فليسَ يف

همُ غيرُ ربك ماتقولْ

طلسمت شعرك فاستوى

فيه المثقف والجهولْ

وينصح لهذا الشاعر الملغز الذي يكتب شعرا غير مفهوم ويسميه شعرا حداثيا وماهو كذلك، بل هي محاولات شعرية غير مكتملة، يرى زكي قنصل أن لا يعجل أصحابها بنشرها، وكان عليهم أن ينتظروا حتى تكتمل لهم أدوات الشعر:

لا تعجلن بنشره

إن كنت تحلم بالوصولْ

تقضي الشهامةُ أن تخف

ف عن قريبك ما يهولْ

وأخيراً يخاطب كل شاعر حداثي يجر ذيله مفتخرا بشعره، متطاولا على الفحول أن لا يبتلي الناس بسماع شعره، وأن يحترمهم فلا يواجههم بمثل هذا الشعر الفج المطلسم غير المفهوم:

يا شاعر الألغاز يهـ

ذي ثم يهزأ بالفحول

ما دام عقلك مثل شع

رك فاحترم أهل العقول!!

قلت: الحداثة واجبة في كل شيء، ونعني بها تلك التي تكون امتدادا طبيعياً للقديم، وتكون ابنا شرعياً للقدامة، أما تلك التي تقوم على القطيعة والتغيير المطلق، فلا، وإن من الحداثة ما يقوم على ما يشبه الطقوس الدينية، ويوطد صلته بأساليب من الشعوذة الفكرية، فأيضا نقول: لا، ويغتر بعض شبابنا فيكتسب كلاما متنابذا له أول وليس له آخر، مضطربا في صرفه ونحوه وعروضه، فإذا لفت نظره إلى شيء من ذلك برطم، وزمزم، وانهمك بالقصور عن فهم آياته وإدراك معجزاته، وماهو بنبي ولكنه (نييء)، ونحن لا نريد أن نجاري (نطنطات) بعض الشباب، ولا نريد أن نكون مع الفرقعات التي يطلقها بعضهم في الفضاء، وهم في حمي الرغبة أن يكونوا أئمة التجديد والتحديث، ولا نريد أن نقبع في دائرة القدامة ونصنع من أنفسنا خزنة وبطاركة وحماة، فكل من حاول تجديدا عبناه ورميناه بالمروق والفسوق، إننا بحمد الله أهدأ من ذلك وأهدى، نعيش مع هؤلاء وهؤلاء، ونبتغي بين ذلك سبيلا، وعسى أن نكون من المهتدين.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5463» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد