لن أزيد شيئاً جديداً على ما كُتب عن المرحوم الشيخ جابر الأحمد، رغم أن كل ما سيكتب مستقبلاً لن يفي للشيخ الراحل حقه، لأنه من طينة أخرى أخلاقاً ومقاماً وأدباً وسحراً، لكنني شاهدت الشيخ جابر في -حلقات خاصة- في غرف مجلس التعاون خلال انفراد القادة باجتماعات مغلقة قبل مراجعة القرارات التي يضعها المجلس الوزاري قبل الجلسة الختامية.
أخذت مشروع القرارات إلى تلك الجلسة الختامية من أجل أن أتلو على القادة ما يوصي به الوزراء، وجدت المرحوم الشيخ جابر يتلو قصيدة غزلية، والقادة يستمعون، وقفت مستمعاً لكي لا ينقض العطاء الشعري النادر، كان الشيخ زايد -رحمه الله- يردد الإعجاب، ويتدخل المغفور له الملك فهد سائلاً الشيخ جابر هل هذا يا شيخ جابر من تأليفك؟ فيجيب المرحوم بالتأكيد.
كان ذلك في مدينة أبوظبي في منتصف الثمانينيات ولم أكن على علم بمواهب الشيخ جابر الشعرية، لكن الراحل -الرائع- يجد راحة محببة في جلسات قادة المجلس عند انفرادهم، كانت تلك المختصرات هي بيئته التي يتوجه فيها أحياناً بالشعر، وأحياناً بالحديث الممتع مع الشيخ زايد عن القنص ورحلاته إلى باكستان والمغرب، وكان الشيخ جابر يستطعم تبادل النوادر مع الشيخ زايد الذي كان تلقائياً ونقياً، وكان يظهر الاستلطاف للمرحوم الشيخ عيسى الذي كان أيضاً يروي النكات البريئة، فيضحك الشيخ جابر متجاوباً مع نكات الشيخ عيسى.ورث الشيخ جابر الكثير من المرحوم والده الشيخ أحمد بن جابر بن مبارك الصباح، والذي حكم الكويت لفترة حساسة ودقيقة، وانتقلت فيها الكويت من الإمارة البسيطة الفقيرة المكافحة إلى عصر النهضة الذي لاحت علاماته في بداية الخمسينيات.
في الصيف القادم، سيصدر أول كتاب عملي وموثق وموضوعي، عن حياة الشيخ أحمد الجابر، وكانت أمنية المسؤولين عن الكتاب أن يقرأ الشيخ جابر ما سجلته الوثائق عن والده الذي قاد الكويت خلال عقود صعبة لم يهدأ له بال فيها إلا في آخر سنوات عمره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتصدير أول شحنة نفط في صيف عام 1946م، وكنت من الذين يودون معرفة تعليقات سمو الشيخ جابر على تعامل الشيخ أحمد مع الأحداث، لكن الأقدار لها القول النافذ وإرادة الله سبحانه وتعالى لا مفر منها.كان الشيخ أحمد يسعى لتربية ابنه الشيخ جابر كحاكم قادم للكويت، فتربى في بيئة تأهيلية لها قواعدها في الانضباط وفي القيم وفي ممارسة ثقافة الأمير، التي أتقنها الشيخ أحمد الجابر، وجوهرها السمو في السلوك والترفع عن الصغائر والتسامح والالتزام بقواعد العلاقات السائدة بين زعامات القبائل وشيوخ العشائر، وأبرز مظاهرها الترحيب والسخاء وتقديم العون والالتزام بآداب الحوار والمجاملات.ولم يخب الأمل فقد صار حاكماً وصار مثالاً لكل ما أراده الشيخ أحمد لابنه، وربما أكثر من ذلك أن الشيخ أحمد ترك تراثاً في علاقاته الإقليمية مع دول الجوار ومع بريطانيا، وفي ارتباطاته مع أهل الكويت، التزم بها ابنه الشيخ جابر بشكل تلقائي دون إجهاد.
تحمل الشيخ أحمد كثيراً من الوكيل السياسي البريطاني ومن المقيم في المنطقة، وعانى من حكام العراق وتعامل مع الحصار التجاري ومضايقات الإخوان بكفاءة مؤثرة، ورسم خطاً بارزاً في علاقته مع شعب الكويت، يجمع بين التسامح الواعي والحزم المقنع.وهنا نقدم موجز للمسارات التي عانى منها الشيخ أحمد وورثها الشيخ جابر:
أولاً: نجد في علاقات الشيخ أحمد مع بريطانيا حذراً ممزوجاً بين الريبة وبين دواعي الواقع، بدأت في أحداث الجهراء التي ما كانت أن تتم لو حزمت بريطانيا الموقف قبل وصول الإخوان إلى قرية الجهراء، لكن الأمر الذي أزعجه أكثر من أي شيء آخر هو الموقف البريطاني في اتفاق العجير في نوفمبر 1922م، عندما عاد الممثل البريطاني الكولونيل مور إلى الكويت يبلغ الشيخ أحمد بضياع المساحة التي كانت لقبائل الكويت في الاتفاق البريطاني العثماني عام 1914م، وهي تشكل حوالي ثلثي مساحة الكويت، فيغضب الشيخ أحمد، ويذكره السير بيرسي كوكس بأن السيف أقوى من القلم.
تركت حادثة العجير بذور النفور والشكوك خاصة وأن ممثل الكويت الذي فرضه الشيخ أحمد وهو الكولونيل مور، لم يفتح فمه خلال أسبوع من المناقشات، بينما دافع كل من الملك عبدالعزيز وممثل العراق السيد نشأت عن مصالحهما بقوة.وتصاعدت بذور الشك في الموقف المبهم والغامض للدور البريطاني خلال تهديدات الإخوان بعد تمردهم ضد ابن سعود عام 1927م وفرضهم القيود على الكويت، الأمر الذي كان يشكو منه الشيخ أحمد، الذي يعاني مثل الكويتيين من الحصار ومن تدهور أسعار اللؤلؤ ومن الأزمة الاقتصادية العالمية ومن الجفاف ومن الفقر إلى درجة إغلاق مدرسة الأحمدية وخفض الرواتب بما فيهم علاوات العائلة ورجال الأمن.
ويتكاثر الشك في نوايا بريطانيا مع أحداث عام 1938م حيث يتعامل كل من المقيم السياسي البريطاني والمعتمد في الكويت بطريقة شجعت مجموعة الكتلة الوطنية على رفع سقف الشروط..
ومن يدرس حياة المرحوم الشيخ جابر سيرى الكثير من تركة الشيخ أحمد حول بريطانيا، مترسبة لدى ابنه. كان الشيخ جابر يردد في كل المناسبات أن البعد عن شباك الكبار خير ألف مرة للكويت.
ثانياً: كان الشيخ جابر دائماً حذراً في علاقاته مع حكام العراق، خاصة حكم البعث المتطرف العنصري الذي تزامن في توليه السلطة مع تبوؤ الشيخ جابر مسؤولية الحكم، وكان الشيخ جابر يتعامل مع حكام العراق وفق وصايات الشيخ أحمد: الالتزام بقواعد القيم التي تحكم العلاقات بين الزعامات، الأدب الجم مع حجم من الحزم المناسب بحيث لا تخطئ القراءات.
وإذا كان المرحوم الشيخ جابر تحمل الكثير من حكام العراق، وصان الأمانة في التعالي على العثرات، فإن الشيخ أحمد عانى الأمرين من حكام العراق، مرات كثيرة في التهديد بمصادرة بساتين النخيل وفرض ضريبة، ومرات أكثر في التوغل داخل الأراضي الكويتية وملاحقة الكويتيين بذريعة منع التهريب، ودائماً باستغلال سلطات العراق لعدم ترسيم حدود الشمال براً وبحراً في التضييق والإزعاج والابتزاز.خلال الغزو، التزم الشيخ جابر بقواعد السلوك المرتفع في عدم الإشارة حتى بالاسم للذين ضايقوه واحتلوا بلده، كان فعلاً مثلما أراد والده الأمير (الندرة)، وعندما كنا نزوره في الطائف أسبوعياً كان يعاني بكبرياء، وعاد إلى الكويت المحررة دون التشفي، فليس من طباع ندرة القوم التشفي.
ثالثاً: ومن يدرس حياة الشيخ أحمد يجد الكثير من التفاعل مع الانفتاح والتطور، يصر الشيخ أحمد على الحفاظ على تراث الكويت المعتدل، في التوازن الاجتماعي السلوكي، وتأكيد مبادرات الاستنارة، فقاوم ضغوط الإخوان على تقييد الانفتاح داخل الكويت، ورفض الإذعان لبعض الأصوات حول المستشفى الأمريكي والعمل التبشيري، وكان يريد للكويت الريادة في التعليم والصحة واقتباس المفيد من الثقافات الأخرى، خاصة بعد أن قام بزيارة بريطانيا في عام 1935 وتأثره بالتطور الحياتي الذي لمسه في تلك الزيارة.وهنا نستذكر دور المرحوم الشيخ جابر راعي النهضة الحديثة، المبادر في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولاسيما حول دور المرأة فلم يذعن - مثل والده- للصوت المعارض.سيرة الشيخ جابر مثمرة وحكمه راشد، وسلوكه صالح وقيمه عالية، وهو تجسيد لأمير الندرة، الذي كان يشغل بال والده المرحوم الشيخ أحمد.أتذكر السؤال الدائم عندما كنت مقيماً في الرياض عن أسباب المحبة الدافئة للشيخ جابر من الكويت ومن أهل الخليج ومن غيرهم من عرب وآخرين عرفوه؟.. ونرد جميعاً بأن الشيخ جابر كنز من قيم يملكه فقط من يرضى عنه رب السماوات والأرض.
Abdullah_bishara@yahoo.com