وهو لا ينعم كما ينعم غيره بالاستقرار في المكان، حيث يحدث بينهما حب وألفة، بل مكانه أو بيته المربع الواقف عليه أو الجالس فيه أو الممتد فوقه، ودكانه هو موقع عمله الذي يتصيد فيه الزبائن والعملاء:
|
لا يستقر به المكان كأنما |
في نفسه دنيا تقوم وتقعد |
طورا تراه في المحطة جاثما |
يستقبل الغادين أو يتصيد |
وتراها طورا في المقاهي حائما |
كالطير لاح لمقلتيه مورد |
وهو يتفنن في تسويقه، ويزعم أن النعال طوع يديه، وأن فرشاته، وأصبغته، وخرقته ملكية ليس لها نظير:
|
يفتن في التسويق، فهو بزعمه |
مَلِك تدين له النعال وتسجد |
فرشاته من هدب كل مليحة |
وطلاؤه تبر أذيب، وعسجد |
والخرقة الصفراء فضلةُ فَضلَةٍ |
من شال كسرى، لم تدنسها يد |
ويداعب عملاءه بنكت لطيفة، وحكايات مضحكة، كل بما يتناسب معه، مراعياً أنه لا يصدر عنه ما يسوء:
|
ويداعب المتقاصدين، مراعيا |
أدب الكلام، مجانبا ما يوجد |
هذا يقول له: حذاؤك كالح |
فاضحكْ لعل همومه تتبدل |
ويعيب هذا أن سير حذائه |
كالمقود المحبوك أو هو مقود |
نكت تصب على الكفاح حلاوة |
وتصد عادية الملال وتبعد |
فالذي نعلمه أن ماسحي الأحذية ليسوا كلهم سواء، فإن بعضهم مرتبط بالمكان متخذ دكاناً خاصاً فيه أتباع وموظفون، كما أن بعضهم تطاردهم الشرط بدعوى الإنسانية، قائلين إنه لا يصح أن ينحني إنسان أمام آخر يصلح حذاءه، فتلك مهانة، وهو كلام جميل وموقف نبيل لو تبعته أفعال منهم في احترام الإنسان، إنهم يقولون قولتهم ثم ينثنون إلى الشعوب فيعيثون فيها قتلاً وفساداً...!!
|
وفي المقطع الثاني من القصيدة يخاطب الشاعر ماسح الأحذية مادحاً نشاطه وكفاحه من أجل لقمة العيش، ثم يعقد مقارنة بينه وبين الغني، وبيان أنه أيضاً يعاني صنوفاً من الآلام، وألواناً من المخاوف لا تكاد تنتهي، وكأنه بذلك يربت على كتف الماسح، ويخفف عنه آلامه، ويشعره أن الجميع يلقى المتاعب والمشاق، مع اختلاف في النوع والشكل، فما على ظهرها مستريح:
|
يا ضارباً في الأرض يزرع قوته |
عند الصباح، وفي المعيشة يحصد |
لا القر مهما اشتد يُخمد عزمه |
يوما ولا حر الظهيرة يقعد |
يهنيك أنك لا تفكر في غد |
إن التعاسة أن ينغصنا الغد |
ويتوجه بخطاب (الماسح) إلى الغني، وهو يفاخره ويدعي أنه أعز منه وأغنى:
|
قل للغني إذا وقفت ببابه |
أنا لو علمت أعز منك وأسعد |
تخشى الكساد، فلا تلذ بمأكل |
وتخاف عدوان اللصوص، فتسهد |
أما أنا فأنام ملء محاجري |
ويطيب في فمي الرغيف الأسود |
دار الفضاء، وباب داري مشرع |
للطارقين وكهربائي الفرقد |
ماذا أخاف ورأسمالي عدة |
عجفاء لا يغري بها متشرد |
وعلام أخشى والنعال كثيرة |
والشمس تلفح، والغمامة تجلد |
وفي المقطع الثالث يخاطب أيضاً الماسح ليدعو له بالسلامة، وليشكره على كرمه حين يتفضل بمسح أحذية الخلق، مذكراً له بأنه إذا قدر على مسح الأحذية وإزالة الغبار عنها، ومحو الجفاف منها، فهل يقدر على مسح أوجه الناس من نفاقها، وهل يستطيع إعادة ماء الحياة إليها؟ ويزيل ألوانها الكالحة حتى تبيض وتتجدد:
|
يا غامراً بالبشر أحذية الورى |
سلمتْ يد من أفقها، سحت يد |
لا يهم فضلك في نطاق ضيق |
إن الكريم يجود، لا يتقيد |
بعض الوجوه وأنت تعرف أمرها |
جف الحياء بها، وشاه المشهد |
فامسح بفرشاتيك كالح لونها |
فلعلها تبيض أو تتجدد |
هذا المقطع الخاتمة يمثل صدمة عنيفة للمتلقي، حيث يركز على الوجوه الكالحة المغبرة العديمة الحياء، وحاجتها إلى المسح، وتفاجأ حين يقرن بينها وبين النعال، وحين يقرن بين ماسح الأحذية وماسح الوجوه، وحين يقارن أيضاً بين الماسح الفقير والغني الوثير، فتشابك الحالات الاجتماعية التي حاول معالجتها في هذه القصيدة، وإن بدت - لأول مرة - أنها حالة مفردة، وليت الإخاء يتم بين الفقير والغني، يمسح الغني بيده وماله على رأس الفقير وجيبه، ويتعاون ماسح الأحذية مع ماسح الوجوه، فيزول الجفاف من هذه، ويعود الحياء لتلك ويلتقي الماسح مع الفاتح على حالة سواء، ويجتمعان على كلمة سواء.
|
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS |
تبدأ برقم الكاتب«5463» ثم أرسلها إلى الكود 82244 |
|