Al Jazirah NewsPaper Wednesday  24/01/2007 G Issue 12536
الاقتصادية
الاربعاء 05 محرم 1428   العدد  12536
التمويل الإسكاني.. أسباب الضعف وتخلُّف الهيكلة!!
د. عقيل محمد العقيل

يستغرب الراصد للوضع الاقتصادي السعودي صعوبة حصول المواطن على منزل يؤويه هو وأبناءه في مقتبل العمر (أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات) كما هو الحال في الدول الغنية على رغم ما تبذله الحكومة من جهود؛ حيث تمنح الأراضي لمواطنيها، وتعزز صندوق التنمية العقاري بمليارات الريالات سنوياً. وتزداد الغرابة عندما نعلم أن نحو 40% من المتقاعدين لا يمتلكون منازل لهم.

وإذا أضفنا إلى ذلك مشكلة أخرى، وهي تهالك الأحياء والمنازل التي تم تطويرها وتشييدها قبل ثلاثة عقود أو أكثر وما يترتب على ذلك من ضياع للجهود وتبديد للثروات إضافة للإفرازات غير المرغوبة المترتبة على هجرة تلك الأحياء وتركها لتجمعات سكانية تمثل بؤرة مشكلات أمنية؛ لأصبح الأمر غاية في الغرابة، وخصوصاً أننا نرى المساكن في الدول المجاورة تزداد قيمة بمرور الزمن؛ مما يجعلها سنداً مالياً لملاكها إضافة لكونها مسكناً يحقق لهم الاستقرار النفسي والاجتماعي، فما الأسباب؟

الأسباب كثيرة، ولكن يمكن تلخيصها في سببين مهمين: الأول سيادة التطوير الفردي على حساب التطوير المؤسساتي نتيجة غياب المطورين العقاريين الحقيقيين، والثاني تزايد الضغوط على ميزانية الدولة التي تتأثر تأثراً مباشراً بأسعار النفط المتذبذبة بشكل كبير؛ مما يجعل الحكومة غير قادرة على توفير كافة الخدمات الأساسية للمواطن (التعليم، العلاج، الإسكان) بالجودة العالية والوقت المناسب، فهل هذه الأسباب استثنائية؟ وهل هي ناتجة عن تقصير حكومي؟ وهل من الصعب معالجتها؟

بالطبع هي ليست ظروفاً استثنائية؛ فكل دولة رعوية وبسبب الزيادة السكانية السنوية لا بدَّ أن تصل الحالة إلى درجة لا يمكن للدولة أن تقدم كافة الخدمات الأساسية لمواطنيها بالاعتماد على دخلها السنوي، وبالتأكيد أن هذه المشكلة ناتجة عن قصور الجهات الحكومية المعنية بالقضية الإسكانية عن التفاعل مع المتغيرات والتعامل معها، وبالتأكيد أيضاً أنه ليس من الصعب معالجتها، بل إن معالجتها قضية ممكنة وبسرعة كبيرة، وبخاصة أن المملكة تنعم اليوم بفوائض مالية كبيرة تعاني من ضيق في القنوات الاستثمارية؛ مما جعل بعضاً من رؤوس الأموال يهاجر للدول المجاورة والبعض الآخر حائراً في البنوك لا يعرف إلى أين يتجه، وبخاصة بعد نكبة سوق الأسهم الشهيرة، إذا لم يكن قد اتجه إلى المضاربة على الأراضي بشكل ينذر بفقاعة عقارية غير ذات قيمة مضافة.

ما الحل السريع؟ الحل السريع يتَّضح إذا شخَّصنا المشكلة، والتشخيص جاء في مؤتمر (اليوروموني السعودي الأول للتمويل الإسكاني) الذي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الفجوة الكبيرة بين المطلوب والمعروض من المساكن ترجع في المحصلة إلى اختلالات هيكلية في السوق الإسكاني. نعم السوق الإسكاني يفتقر لهيكلة تضبط العلاقة بين كافة أجزائه بما يحقِّق مصالحها جميعاً بنظرة شمولية.

فالمواطن يريد منزلاً ولا يجد المسكن المطور بجودة عالية، كما لا يجد التمويل الذي يمكنه من شرائه، وأمانات المدن لا تجد المطوِّرين الكبار القادرين على تطوير وحدات سكنية بكميات كبيرة ومتنوعة ضمن فلسفة التطوير الشامل لتتخلص من مشكلات التطوير الفردي الذي يضاعف مشكلاتها وهمومها بشكل يصعب معالجته بالإمكانيات المتاحة. والمستثمرون العقاريون يعانون من شحّ آليات التمويل لمشروعاتهم العقارية، كما يعانون من طول الإجراءات وغموض الأنظمة؛ مما يجعلهم يحجمون عن الاستثمار في هذا القطاع الحيوي. والمؤسسات المالية ترفض التوسع في التمويل في هذا القطاع الحيوي لارتفاع مخاطره بسبب غياب اللاعبين الكبار وبسبب عدم اكتمال المنظومة التشريعية التي تمكن شركات التطوير من الوفاء بوعودها من ناحية وتمكنها من الحصول على حقوقها من ناحية أخرى.

في غياب الهيكلة السليمة التي تدفع بالقطاع الإسكاني إلى الأفضل يعاني المواطن من المسكن المتهالك، سواء طوّره بنفسه وهو القليل المعرفة والخبرة، أو اشتراه من مطوِّر فرد يسعى لتحقيق أعلى ربح بأقل جودة دون أن يخشى ضياع سمعته كما هو شركات التطوير العقاري العملاقة والأمانات كما أشار أمين مدينة الرياض الدكتور الأمير ابن عياف في كلمته للمؤتمرين: نعاني من سيادة التطوير الفردي الذي يشكل أكثر من 90% من المساكن المطوّرة وبات يمثل أحد المفاهيم العمرانية المقلقة للبلديات والمكلفة مادياً وإدارياً على الدولة وعلى المواطن، حيث عادةً ما ينتهي الوضع إلى مبانٍ بجودة متواضعة وأحياء متناثرة يتم التطوير فيها بصفة انتقائية. والبنوك تعاني من تخمة مالية لا تجد لها قنوات آمنة تحقق أهدافها وأهداف أصحاب المدخرات. والمستثمرون يرون الفرصة الكبيرة الناتجة عن وجود فجوة كبيرة بين المطلوب والمعروض ويخشون التوجه لاغتنامها لارتفاع المخاطر في ظل عدم اكتمال المنظومة التشريعية والإجرائية.

وإذا أخذنا بهذا التعريف الذي اتفق عليه المشاركون في مؤتمر (اليوروموني للتمويل الإسكاني) أكاد أجزم أن الحل السريع بات سهلاً وقريباً إذا استرشدنا بالتجارب العالمية الناجحة التي طرحت أثناء المؤتمر كما رغب في ذلك الأستاذ يوسف الشلاش رئيس مجلس إدارة شركة دار الأركان في كلمته الافتتاحية. نعم الدول المتقدمة حلّت المشكلة الإسكانية بكل سهولة من خلال بناء هياكل تنظيمية تربط مصالح كافة الأطراف بعضها ببعض وتفعل قوى السوق؛ مما يوجد دورات مالية متتالية تتحرك بين هذه الأطراف دون أن تتأثر بميزانية الدولة وتذبذب أسعار النفط، دورات مالية تمكن المواطن في المحصلة من شراء المسكن الملائم في الوقت المناسب بضمان دخله الشهري بما يرفع من مستوى معيشته وجودة حياته واستقرار أفراد أسرته.

وأعتقد أن الحل الذي طرحه المهندس سعود القصير مدير عام شركة دار الأركان المتمثل في ضرورة إصدار نظام الرهن العقاري هو الحل الأمثل الذي أثبت نجاحه في كافة الدول المشابهة للوضع في مملكتنا؛ فكل من سكن في الدول الأوروبية وجرّب نظام الرهن العقاري استطاع أن يحصل على مسكن بمجرد سكنه في تلك الدول، وباع هذا المسكن عند مغادرته بربح أو برأس ماله؛ حيث سكن مدة أربع أو خمس سنوات دون إيجار.

كلنا أمل في حكومتنا الرشيدة التي ساهم ممثِّلوها في تشخيص الوضع؛ حيث أكد معالي وزير المالية في كلمته بالمؤتمر عدم كفاية المبادرات والجهود السابقة والحالية لمواجهة الطلب على الإسكان الحالي والمتوقع، وأنه يتعين لتحقيق ذلك وللوفاء باحتياجات المواطنين اتخاذ إجراءات أخرى وإطلاق مبادرات جديدة تكفل تطوير قطاع التمويل الإسكاني وتنميته على نحو مستدام؛ أقول: كلنا أمل وتفاؤل أكثر من أي وقت مضى بأن حكومتنا ستسترشد بالتجارب العالمية الناجحة في بناء نظام فعال للرهن العقاري يحل المشكلات الهيكلية الحالية ويمكّن جميع الأطراف من تحقيق أهدافها ومصلحة الوطن والمواطن في المحصلة.

alakil@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد