أمامي قصيدتان: الأولى بعنوان: (صبّاغ الأحذية)، وهي للشاعر محمد الصافي النجفي، والثانية بعنوان: (ماسح الأحذية) للشاعر زكي قنصل الديوان ص 350 ج3، ولكون التعبير الثاني أخف على اللسان، وأشيع في الاستعمال، عنونت به المقال.
|
ولتكن بدايتنا مع النجفي، ديوان (التيار) ص 26، ويعد موضوع القصيدتين لقطة اجتماعية رائعة لفتت إليها مشاعر الشاعرين، وبعثت فيهما الإحساس الأليم ببؤس هذه الشريحة من شرائح المجتمع، فانطلقا يعالجانها كل بأسلوبه الخاص، وإن اتفقا في مشاعر الأسى والحزن، غير أن النجفي ربط بشكل واضح بين بؤسه وبؤس صباغ الأحذية، وبكى على نفسه وحظه، من خلال وصف فعاله، ونحن جميعاً نعلم أن صباغ الأحذية يحمل على كتفيه صندوقه وبداخله أدواته الصبغية، وعلى ثيابه المتسخة آيات فقره وبؤسه، ونجد النعل المتسخ هنا هو القائم بدور الإعلان عن فقر الشاعر، يقول النجفي:
|
جاء يوما إليَّ صبّاغُ نعل |
وبنعلي صبغ من الأيام |
مر دهر عليه لم يرَ صبغا |
غير صبغ الغبار والأقدام |
وكسته أشعة الشمس لونا |
صار فيه كقطعة من رماد |
وتحس أن الخرفشة الحاصلة من تكرار لفظ (الصبغة) تكاد تجسد الخرفشة الحاصلة من النعل الشديد اليباس، فعليه يرتسم الفقر، ويرقد الغبار، وتكسوه الشمس ألواناً من الجفاف، ويتساءل المرء: لم جاءه هذا الصباغ في هذه الحالة المزرية؟ ألم يلحظ أنه فقير مثله؟ سوف لا يفيد منه بشيء، أدرك الشاعر إمكان حدوث هذا التساؤل، فذكر ما يدل أن الصباغ إنما جاءه بعد يأس من غيره.
|
جاء نحوي من بعد ما طاف يوما |
دون ربح غير العنا والسقام |
جاء نحوي يروم صبغ حذائي |
وأنا للصباغ أعدى الأنام |
شاعرنا النجفي يربط بين صبغ النعال حين نروم ستر مظهر القدم فيها، بمحاولة ستر العيوب بالكذب والنفاق والمجاملات والتزييف، ويعلن عن كراهيته لذلك:
|
أنا خصم الألوان تخفي عيوبا |
إن عندي الألوان كالأوهام |
وكاد الشاعر يرده ويذوده، فخشي أن يكسر نفسه ويضيف إليه هماً فوق همه، وكاد يدخل يده في جيبه، فرأى فيها إذلاله فأمسك:
|
رمت ردا له فلم يرض قلبي |
رده خائب المنى والمرام |
قلت: أحبوه درهما، غير أني |
خفت من أن يذله إكرامي |
وأخيراً قرر أن يستخدمه في صبغ نعله، وأن يجزل له العطاء بكل ما في جيبه، وهو المبلغ الذي كان يعده لشراء طعامه، فجمع بذلك بين مساعدة صباغ النعال، وقدم للمتلقي درساً في السخاء، وأشار إلى هذه الفئة البائسة من المجتمع، كما أشار إلى حياة البؤس التي يعاني منها أمثاله من الشعراء والأدباء:
|
قلت: فاصبغ لي الحذاء بصبغ |
فيه أغدو مثل الذوات العظام |
فغدا يصبغ الحذاء بحذق |
مبديا فيه كل فن تمام |
ثم بادرته بما ضم جيبي |
من نقود أعددتها لطعامي |
فمضى هانئا ورحت كأني |
ثمل بالسخاء لا بالمدام!! |
ويركز زكي قنصل على ماسح الأحذية، ويصف أحواله الاجتماعية.. إنه في يسر من أمره، فلم يتحدث كالنجفي عن فقره، وإنما قصر الحديث كما قلنا على ماسح الأحذية.. إنه شاب في مقتبل العمر، متورد الخدين، قد اسودت أصابعه من صنعته (صبغ الأحذية)، يمشي بوجه طلق لا يعبأ بضيق عيشه، ولا
|
يبالي بقلة ذات يده. |
في وجنتيه طلاقةٌ وتورُّد |
وعلى أصابعه خضاب أسود |
ضاقت به الدنيا، فلم يحفل بها |
شتان عبدٌ في الحياة وسيد؟ |
ضاقت مُوشّعَ بالبشاشة ضيقها |
وطغت فروّضها فؤاد سيد |
ما هاضت البلوى جناح رجائه |
أو شلّ همته الكفاح المجهد |
وهو يستعين على شقائه بترديد أغنية مفضلة لديه يداعب بها جراحاته، وزاده كيس به طعامه ولفافتان من السجائر، ومرقده الغبراء والجلاميد البتراء:
|
أبدا يدندن ثغره أغنية |
تحلو على تكرارها، وتجدد |
أيان جاع فزاده في كيسه |
نعم الرفاق لفافتان ومزود |
وينام حيث تناله سنة الكرى |
سيان ليّنُه لديه وجلمد |
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS |
تبدأ برقم الكاتب«5463» ثم أرسلها إلى الكود 82244 |
|
|
|