Al Jazirah NewsPaper Wednesday  17/01/2007 G Issue 12529
مقـالات
الاربعاء 28 ذو الحجة 1427   العدد  12529
في مقامات الحب والامتنان
د. صالح بن سبعان

على سُلَّم الطائرة كنت أودِّع أبي برعاية الله وحفظه مغادراً إلى ألمانيا في رحلة علاج واستشفاء، أسأل الله كل لحظة أن يعود منها وقد استرد عافيته، وأن يبقيه ويحفظه لنا جبلاً شامخاً نستظل به ونفيء أمناً، مثلما كنا صغاراً، وأعرف أننا مهما كبرنا وشخنا ونثرنا حوله ما رزقنا الله من أولاد وبنات سنظل في عينيه (صغاره)، أولئك الذين حملهم على أكتافه وحبوا بين قدميه.

على سلم الطائرة وأنا استودعه الله عبر بخاطري شريط لحياة هذا الرجل الذي لم يفارقه شموخه وكبرياؤه حتى في أصعب لحظات مرضه وضعفه، وتذكرت كيف أنه تماسك جاهداً ورد سائلاً الأمير سلمان عندما انحنى عليه بكل الحب يسأله عن صحته وهو بالمستشفى (أنا طيب، الحمد لله، وأنت كيف حالك؟).

حينها ابتسم الأمير وهو يرد (أنا طيب والحمد لله يا شيخ عبد الرحمن)، يبدو لي أحياناً أن هؤلاء الرجال من طينة أخرى.

يفتقد الأمير وجهاً بين آلاف الوجوه فيتفقده، ثم يترك كل شيء بين يديه، ليعوده مريضاً في جدة..

ومريض، هده الإعياء، يسمع صوت أميره، فيسأل هو الأمير عن حاله وعن صحته.

ثمة خيط يراه حتى من لا ينتمي إلى هذه البيئة، وهو خيط رفيع يدق شفيفا حتى لا يكاد يُرى، ولكنه قوي ومتين، يربط ما بين مواطن هذه الأرض المباركة وبين قيادته وولاة أمره، يحتاج صاحب الحاجة - إذا أعيته - أن يطرق أي باب يختار من أبواب ولاة الأمر، المفتوحة دائماً، مستئذناً، ثم يلقي بحاجته بين يديه، وهو مطمئن أنه لن يعود خائباً.

هكذا ببساطة وعفوية تتم الأمور وتنقضي الحاجات، فكرت في نفسي: ترى إلامَ يعود هذا ويرجع؟

فقلت: إنها ديمقراطية الصحراء، حيث لا أبواب تغلق، ولا بروتوكولات بين أفراد المجموعة الواحدة بل حتى ولا الغريب الذي يأتي مستجيراً فيجار، ومسافراً يستنبح الكلاب ويتقرى النار.

ولكن: كيف استطعنا أن نحافظ على هذا الإرث وقد تعقدت الحياة، وتشابكت خطوطها، وكبرت الدولة الحديثة وقامت فيها المؤسسات العصرية؟

وفكرت في إجابة: ربما هي العزلة التاريخية الطويلة، حيث أمضى الناس هنا مئات السنين على الرغم من قسوة الظروف الطبيعية والاجتماعية والتقلبات السياسية، لم يغادروها، التصقوا بأرضهم الجدباء وصبروا وصابروا إلى أن تأذن ربك وأفاض عليهم من خيره ونعمه.

وإن هذه العزلة ربطت بينهم بوشائج قوية، أرست قيماً وعادات وتقاليد لم تستطع وسائل الحضارة إلا أن تزيدها قوة، فأصبح بإمكان المواطن أن يستعين بالهاتف ليوصل صوته إلى ولي الأمر بدل أن يتكبد عناء السفر.

هذا الخيط من الحب والوفاء يتجلى لك أحياناً في حركة جماعية عضوية، مثل تلك التي تجلت عند بيعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، في تلكم اللحظات تجلى خيط الحب والوفاء هذا متوهجاً بشكل أدهش المراقبين السياسيين، الذي بدلا من التحليل السياسي للحدث، أخذوا يتحدثون عن الأسس السيسولوجية لنظام الحكم وعن العلاقة بين القيادة والقاعدة حين تأخذ شكلا خاصاً ومتميزاً ومتفرداً.

هذه الرعاية الحانية، وهذا الدفء الذي يحيط بك في مثل هذه اللحظات الحرجة يجعل للانتماء الوطني مذاقاً آخر، ويمنحه معاني، لا تخطر ببال من تقتصر علاقته بوطنه وبقيادته على النظم والقوانين المجردة، المحايدة.

إذ يكتسب الانتماء للوطن، والولاء لقيادته أبعاداً شخصية وذاتية تتغلغل في صميم أعماق المواطن، إنه أقرب إلى الشعور الأسري الخاص، فتصبح لست مجرد مواطن في وطن، وإنما أنت فرد من أسرة.

يصغر الوطن حتى يصير بيتاً..

وتضيق المساحات حتى يصبح ساكنوه أهلاً.

والشوكة التي (تغز) الواحد (تغزُّ) الجميع فيه.

احتشدت كل هذه الخواطر في ذهني وأنا على سلم طائرة الإخلاء التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين، استودع الله والدي في رحلته العلاجية بعد أن حرمني الأطباء من مرافقته حتى أشفى تماماً مما أصاب القلب، فتذكرت وأنا أودعه ما أحاطه به ولاة الأمر جميعاً من عناية ورعاية واهتمام، بدءًا من ولي العهد الأمين سلطان الخير، والأمير متعب الذي لم ينس يوما نشأتهما معاً تحت ظلال الوالد المؤسس الوريفة، والأمير سلمان الذي ما كفّ يوماً عن متابعة حالته، سؤالاً وتوجيهاً وأوامر، ثم الأمير خالد الفيصل الذي يسألني دائماً عما ينبغي أن يفعله، والأمير عبد الله بن خالد بن عبد العزيز الذي ظل على اتصال دائم بي يتابع معي كل صغيرة وكبيرة، ولا أعد، ولو عددت لما كفت المساحة.

ولكن هذا هو دأب أبناء الأصول حين يحكمون وحين يحبون فإنهم يطوقونك بالجمائل التي تعجزك فلا تعرف كيف ترد عليها سوى بالشكر العميق والشعور الغامر بالامتنان، بما أحاطوك به من عناية ورعاية تحمد الله عليها كثيراً وتمتلئ بها نفسك فخراً، فتعلن بكل ما في قلبك من حب واعتزاز انتماءك لهذا الوطن الخيِّر المعطاء، وولاءك اللا محدود لولاة أمره.

وعلى مقال خالد الفيصل: أرفع رأسك أنت سعودي.

فلترتفع هاماتنا فخراً وحباً واعتزازاً.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS

تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244

أكاديمي وكاتب سعودي

dr- binsabaan@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد