تعدد الأوطان كتعدد الزوجات، شيء ممتع لكنه مكلف وشاق، غير أن الأصل في الأول التعدد، فقلما يعيش المرء في وطن واحد، والأصل في الثاني الإفراد فلا يلجأ إلى التعدد إلا لحاجة يحددها في نفسه، وقد شعر القدماء بضرورة الانتقال من مكان لآخر من أجل تحصيل لقمة العيش أو لصلة رحم، أو لتحصيل علم، أو لتحقيق غرض ديني، ونحو ذلك من أمور الدنيا والدين، فذكروا أنه يجوز نسبة المرء إلى أي مكان تواصلت فيه إقامته إلى خمس سنوات فما فوق، كأنهم على حد تعبير المعاصرين يمنحونه بذلك جنسية المكان، ومن هنا جاء في تراجمهم نسبة المرء إلى أكثر من مكان، فيقال - مثلا - فلان الدمشقي المكي المقدسي، وربما كان حبه لأحد تلك الأوطان أشد من الأخرى فيما يملكه القلب.
|
كلنا يعلم أن أهل الشام (سوريا - لبنان - فلسطين) قد تعرضوا في القرن الماضي المسيحي وقبله إلى الهجرة إلى بلاد أمريكا (شمالية - وجنوبية) فمنهم من نبغ في الأدب كصاحبنا زكي قنصل، ومنهم من نجح في معالجة أمور التجار وأصبح من أصحاب رؤوس الأمول الكبار، ومنهم من امتهن مهنا غير مريحة وغرق في أوحال تلك البلاد، ومنهم من رجع إلى وطنه الأول كميخائيل نعيمة، ومنهم من اكتفى بزيارته ولكنه استقر في موطنه الجديد وهم كثر، وهذا النص الذي بين أيدينا يمثل إحدى تلك الحالات، التي تمثل معاناة الشاعر نفسه:
|
حن الغريب إلى ربوع الشام |
أترى يعود على جناح منام!! |
أبدا نعيش لها ونهتف باسمها |
يسلو الحمى من عاش للأرقام |
وقد ولد سنة 1916م بالأرجنتين، وعاد به والده سنة 1922م إلى سوريا مسقط رأس والديه، وفي أواسط 1929م نزح به والده مع بقية أفراد الأسرة إلى البرازيل، وهناك استقرت العائلة، وكتب هذه القصيدة سنة 1968م عشية سفره إلى وطنه، هي بعنوان (في سلم الطائرة) فهو يودع وطنا ليلقى آخر، يودع البرازيل ليلقى سوريا، ويغادر رفقةً وأهلا وأحبة، ليجد في وطنه الأول أهلا ورفاقا آخرين، فمحظوظ محظوظ من يكون ذا وطنين، إنه ذو ثراء نفسي، وزخارة وجدانية لا تعرف الحدود، ومسكين مسكين من لا وطن له كالفلسطينيين اليوم، إنه يعلن عودته أو زيارته لوطنه الأول، ويتساءل: هل يحس وطنه استقباله؟
|
|
|
ثم يصف طول ليله في أيام البعد، ومساهرته النجوم والذكريات، وقد نجد فيها نكهة من معلقة امرئ القيس:
|
|
متى يا ثقيل الخطى، تنجلي؟
|
|
|
|
وهل يستوي النجم والمبتلي؟
|
ويخاطب قلبه، وربما هو يجرد من نفسه شخصاً يناجيه، ويصفه بما يحب أن يصف نفسه:
|
لك الله يا خافقا في الضلوع |
قضيت حياتك في مجهل |
غريبُ اللسان غريب الأماني |
غريب العشيرة والموئل |
كلانا يعيش على الذكريات |
وأين السراب من الجدول؟! |
ثم يتحدث عن بعض أحوال من كانوا يحيون مثله في المهجر، من الجري وراء تحصيل المال، وإقبالهم على تأسيس المتاجر والمصانع، وقطع الصلة بينهم وبين أقاربهم وذويهم في الوطن الجديد والوطن القديم، ثم هو يذكرهم بالقناعة، ويدعوهم إلى عدم التكالب على الدنيا:
|
طمعنا فأوردنا في المهاوي |
ونودي الفريسة بالأجدل |
ظننا السعادة في متجر |
يضم الكنوز، وفي معمل |
فلم نجن غير الأسى مشربا |
وغير الندامة من مأكل |
إذا كان عندك شيء يقال |
فقله، فقله ولا تخجل |
لعمري لقد صدق القائلون |
وعاء الشراهة لا يمتلي |
رأيت القناعة شهدا ولكن |
تحوم النفوس على الحنظل |
|