Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/01/2007 G Issue 12515
مقـالات
الثلاثاء 20 ذو الحجة 1427   العدد  12515
في مقاربة التوقيت والرغبة
مشنقة عيد الأضحى وما وراءها
د.صالح بن سبعان*

وكأنما كان هذا هو الهدف الحقيقي الذي قصده الأمريكان ومن هم خلفهم في الإدارة العراقية من اختيارهم عيد الأضحية توقيتاً لتنفيذ الحكم بشنق الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

واختيار التوقيت لم يكن عشوائياً، مثلما كانت العجلة في التنفيذ بعد أربعة أيام من التصديق الرئاسي عليه - أيضاً - عشوائياً.

كان الهدف الحقيقي هو أن تقوم قيامة المسلمين في بغداد والعالم العربي والإسلامي ولا تقعد، وأن تنحصر (كل) القضية العراقية وتختزل في الجدل هو مغزى ودلالات انتهاك حرمة العيد بإعدام صدام حسين. وبالفعل، هذا ما حدث.

ومن تابع القنوات الفضائية خلال أيام عيد الأضحية والمناقشات المحتدمة فيها يدرك تماما أن التوقيت كان هو (عقدة) القضية العراقية الشائكة.

إلا أنك وبشيء بسيط من التأمل تستطيع أن تفهم الدوافع التي يخشى أبطالها الإعلان عنها.

وهذه الدوافع تتوزع في عدة اتجاهات ولكن يمكن يحصرها في التالي اختصاراً:

1- فشل الاحتلال الأمريكي الذريع عن تحقيق أي من أهدافه التي ظل يروج لها كمبررات للاحتلال. فبعد اكتشاف زيف مسألة أسلحة الدمار الشامل، طلعت إدارة بوش بهدف جديد هو محاربة الارهاب فأصبح العراق أكبر وأخطر ساحة لتفريخ الإرهاب، فتحول الهدف إلى الديمقراطية وكانت نتيجتها التحاور بالقنابل والسيارات المفخخة والأسلحة الرشاشة بين المجموعات العراقية بدلا من الحوار السياسي، وأصبحت المساجد والشوارع والمنازل ساحات لهذا الحوار الدموي بدلا من مبنى البرلمان الذي صار أوهن من بيت العنكبوت.

هذا الفشل الذي كانت خسارة الجمهوريين لأغلبيتهم في مجلسي الكونجرس والشيوخ إحدى نتائجه، ولا زالت تداعياته تتوالى جعل الإدارة تتخبط في البحث عن أي بصيص انتصار أو إنجاز.

ولم يكن بين يديهم للأسف الشديد ورقة يلعبون بها غير شخص وجسد صدام حسين المجرد من أي ثقل أو وزن سياسي بعد إلقاء القبض عليه، ومثلما أعلن بوش بعد اعتقال صدام مزهواً بأن المهمة انتهت، ها هو يعود مرة أخرى ليوحي بأن المهمة - أيضا وللمرة الثانية - قد انتهت حين صرح من مزرعته بأن إعدام صدام يؤسس لمرحلة جديدة في مستقبل العراق.

أما بالنسبة للسلطة العراقية فقد كان يحركها دافعان قويان أحدهما سياسي، والآخر عاطفي غريزي.

الناحية السياسية من دوافع السلطة الإدارية - وتتشارك فيه مع الإدارة الأمريكية - هو أن صدام حسين الذي تم تجريده من قوته الرمزية كبطل قومي ووطني يوم أن تم تسحبه من الحفرة بتلك الهيئة المزرية والطريقة المذلة، عاد يستعيد بعض بريقه الرمزي في قفص الاتهام وهو يلقي الخطب الوطنية والقومية والدينية في وجه قضاة لم يتورع عن وصفهم بأقذح الألفاظ.

وقد استطال مسلسل (الدجيل) وتصاعدت معه وتيرة عمليات القتل والتدمير التي تركزت على العراقيين بنمط مذهبي، إلا أن ضحاياها من الجنود الأمريكان تصاعد بالمقابل ليصل إلى الثلاثة آلاف جندي صبيحة إعدام (صدام حسين). ولم ينته مسلسل الدجيل حتى بدأت حلقات مسلسل (الأنفال) وهي أيضا كانت في حال استمرارها لثلاثة أعوام أخرى كفيلة بأن تتيح للرئيس السابق أن يستعيد كل ألقه المفقود في ذاكرة شعب يبحث بالحاح عن رمز يجسد المقاومة ويوحدها للخروج من طاحونة الموت التي تطبق على الجميع وتهدد بتمزيق الوطن، بعد أن تقطعت أوصال الدولة وصارت في مهب الريح.

لذا كان لا بد أن تكتفي الإدارتان المتورطتان في المأزق العراقي من إعدام صدام حسين بسرعة، علَّ ذلك يحقق عدة أهداف:

أولها أن يزال عن الوجود ما بدأ يُطرح أمام العراقيين والعرب كاحتمالات رمز، حتى ولو كان السبب الأول وراء هذه الزلزلة.

وثانيها إرهاب الفصائل البعثية المقاومة للاحتلال وللسلطة العراقية، وأي فصائل أخرى ذات دوافع ضعيفة في المقاومة، علَّ هذا يقلص من عدد الجيوب المقاومة لتتفرغ السلطتان المتورطتان لمعالجة بؤر العنف والإرهاب الأقوى في الميليشيات الطائفية المنخرطة في حرب تصفية وجود وحسابات مع الأطراف الطائفية الأخرى.

أما الدافع الغريزي للسلطة فيتمثل في إشباع رغبة غريزية حارقة في الانتقام من صدام حسين وكل ما يمثله، أو ما يمكن أن يمثله من محمولات ومدلولات.

فذو الحجة من الأشهر الحرم، بل هو أكثرها حرمة.

ويوم السبت وحجاج يبت الله الحرام يتجهون من مزدلفة إلى صعيد منى الطاهرة لرمي جمرة العقبة الكبرى، ليبدأ احتفال المسلمين بعيد الأضحى المبارك مولمين أضاحيهم تقربا إلى الله وتأسياً بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مستعيدا ذكرى الفداء الإلهي لإسماعيل عليه السلام حين عزم والده على ذبحه تصديقاً للرؤيا.

اختار من تحرقه الرغبة في الانتقام هذا اليوم تحديداً، وبكل ما يحمله، وما يمثله هذا اليوم من حرمة وقداسة وفرحة ليهدى للأمة المسلمة كلها صدام حسين ضحية في يومها هذا؟ علماً بأن كل الشرائع والقوانين السماوية والإنسانية الأرضية تحظر تنفيذ حكم الإعدام - بأي وسيلة كانت - في العطلات والاحتفالات الدينية.

ولكن مخالفة أهل الحكم في العراق ومن هم وراءهم لكل الشرائع والقوانين والأعراف كان وراءه ما وراءه من رغبة تكشف عن مخطط استراتيجي يخفي ما هو أخطر وأكبر وأعظم من مجرد الاستعاضة عن كبش، برئيس دولة عربية مسلم، سني كأضحية تقدم لمن أشبع هذا الفداء جوعهم النهم للرغبة في التشفي والانتقام، وقد سارت بالفعل جموعهم في مسيرات احتفالية عبرت عن عميق فرحتها بهذه الأضحية الرمزية.

وهكذا اكتسى عراق اليوم في العيد بلونين: أحدهما ملون فرح مبتهج يرقص رجاله ونساؤه وأطفاله في الشوارع والآخر خلت شوارعه من المارة ولاذ فيه الناس بالمنازل يبكون ونساؤه يتوشحن بالسواد لباساً.

وهكذا لم يدع أدعياء الحرية والديمقراطية ودعاتها مناسبة العيد تمر كما عهدها المسلمون كل عام فتنشر المحبة والسلام حتى بين المتخاصمين من الناس، دون أن يعمقوا بمناسبتها الجراح ويزيدوا نار العداوة والبغضاء المذهبية والطائفية ناراً، فيوغرون الصدور حقداً على حقد ويزرعون الفتنة ويتعهدون غرسها بالرعاية والسقاية لتطرح الموت والتهجير ثمراً.

وما كل هذا سوى لاشباع رغبة غريزية بدائية ومتوحشة في الانتقام والتفشي، ليس على صدام حسين تحديداً، لأنهم كانوا يستطيعون إعدامه بعد العيد مثلما قرروا لبرزان والبندر.. ولكن اختيارهم خصَّ صدام لأن الرمز بطريقة أو أخرى لما يمثله. والهدف الحقيقي أوضح من يُصرح به بعد أن أفصح عن نفسه. صحيح أن هناك هدفا سياسيا أخلاقيا يتمثل في الخوف من استمرار مسلسل محاكمات صدام حسين، فالرجل ونظامه كانا عاملين مؤثرين ولاعبين أساسيين في أحداث كبرى شهدتها هذه المنطقة من العام خلال أكثر من ثلاثة عقود ونصف، كان صدام حسين هو العامل المشترك بينها جميعاً.

وثمة الكثير من الأسرار التي بدأت منذ أكثر من عقد تتسرب عن دور الولايات المتحدة وبعض الأطراف الغربية في الأربعة حروب التي أشعلها صدام حسين ونظامه في منطقة الخليج. والحال أن استمرار المحاكمات على هذا النحو المعلن والمبث مباشرة - رغم القطوعات المتتالية - كان سيكشف المزيد من الأسرار وينزع الكثير من الأقنعة، وبالطبع ما من أحد في كلا السلطتين الأمريكية والعراقية يرغب في وقع الأغطية عن هذا المخبوء الفضائحي.

هذا هدف يعرفه حتى الصغار، إلا أنه إذا لم يرفع الغطاء عن الأسرار المخبوءة اليوم، فإنها ستكشف لاحقا في المستقبل، حتى ولو خنق صوت صدام حسين بحبل المشنقة، لأنه كنز نادر لكثير من هذه الأسرار، ويومها ستلحق لعنة التاريخ بكل من تورط.

إلا أن أعيننا وأذهاننا يجب أن تعمل بطاقتها القصوى من التركيز الإيجابي، وذلك وفق المنهجية التالية:

- يجب أولاً أن نعول كثيراً بالتركيز على ما كان يعرفه صدام، وأُعدم كي لا يكشفه.. فالمستقبل كفيل بهذا، والتاريخ لا يغادر شيئا إلا ذكره، فهو لا ينسى، ولكنه يطوى ليفتح ويقرأ ويفهم.

- ثانياً: في مسألة اختيار التوقيت لتنفيذ الحكم، يجب أن نركز على ما تكشف عنه، وما يمكن أن يُقرأ من هذه الرغبة وهذا التوقيت، لا الرغبة أو التوقيت وراءه.

فقراءة ما وراء الرغبة والتوقيت وما صاحب التنفيذ تكشف عن مخطط كبير وخطير جداً، يحتاج إلى قراءة استراتيجية تستجليه، ورؤية استراتيجية للتصدي له.

(*) أكاديمي وكاتب سعودي

dr-binsabaan@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد