Al Jazirah NewsPaper Thursday  23/11/2006G Issue 12474عزيزتـي الجزيرةالخميس 02 ذو القعدة 1427 هـ  23 نوفمبر2006 م   العدد  12474
رأي الجزيرة
الصفحة الرئيسية

الأولى

محليــات

الاقتصادية

الريـاضيـة

مقـالات

فـن

دوليات

متابعة

محاضرة

منوعـات

نوافذ تسويقية

الرأي

عزيزتـي الجزيرة

سماء النجوم

زمان الجزيرة

الأخيــرة

رداً على طروحات د. حمزة المزيني (2)
لا تصبوا العلومَ في قالب واحد!

أي تراجع لنسق التفكير الفلسفي لحساب العلم، يعني - ضمن أشياء أخرى - أن العلم يُقاد إلى حتفه بعملية تشبه الانتحار البطيء، ذلك أن نسق التفكير الفلسفي تجاه العلوم الطبيعية هو وحده الذي يجعل عقل الإنسان مهيأً لخلق أسئلة قلقة لا تسكن ولا تطمئن حيال صحة منهج العلم ودقة نتائجه ومعقولية ادعاءاته وعقلانية مساره، وهو لا يكتفي بذلك بل يستوعب إنجازاته ويعيد إنتاجها أسئلة يُقتحم بها كل جديد وتُهز بها كل زاوية ويُخلخل بها كل بناء ويُفتش فيها عن كل خبيئة، مما يجعل العلم متلبساً باحتراس دائم من مشاغبات الفلسفة واستفزازاتها، مدججاً بأجوبة ومتسلحاً ببراهين، كيف لا يكون فعل التفلسف الإسلامي كذلك، وقد ربانا المولى - عز وجل - على طلب الحجة والبرهان في كل شيء، فقال في محكم تنزيله: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}، يقوله هو سبحانه، لمن؟ للمشركين، يطالبهم بالإتيان بحجة أو بإشهار برهان يبرر شركهم به تعالى، وهو يعلم سبحانه أنه لا حجة لهم غير الضلال. وفعل التفلسف لا يكون إسلامياً، إذن إلا إذا باشر عملية (التفكير الحججي)، وذلك بعد أن يستوعب منهجية العلم ونتائجه ويقيمها ويحللها وينتقدها في إطار الهداية بالنصوص والمنطلقات الإسلامية بحسب الضوابط المنهجية المرعية.
ونواصل تحليلنا لأطروحات الدكتور حمزة المزيني بوصفها أنموذجاً لما وصفناه بالنسق الأكاديمي الميكانيكي الذي يتعامل مع العلم بنظرة تسطيحية. تلك النظرة التي لا تتسامح بأي نوع من استفزاز العلم بحزمة من الأسئلة المعرفية - الإبستمولوجية - بحجة الحفاظ على كينونة العلم ومقامه وهيبته أمام العامة أو المستهلكين لنتائجه أو منتجاته! وحيث إننا قد جعلنا نقاشنا مع الدكتور في مسائل ووسعنا تناول مسألتين في حلقة سابقة، فيكون سائغاً إكمال النقاش وجعله في مسائل متتابعة، متوخياً الانسيابية والمنطقية والاختصار قدر المستطاع.
المسألة الثالثة: تفاوت العلوم، مما لمسته من طروحات زميلنا الكريم الدكتور حمزة أنه لا يأبه لا بقليل ولا بكثير بمسألة (تفاوت العلوم)، وهذا خطأ معرفي بيّن، والتفاوت الذي نلمح إليه هنا إنما يقع في الطريق إلى العلوم، وقبل حصولها لا بعده، وما يقع في الطريق إليها إنما هو المنهجية المستخدمة في الوصول إلى النتائج، ومن هنا كانت العلوم القريبة من البديهة والضرورة في مرتبة أعلى، (وليس الخبر كالمعاينة)، ومثل الزركشي لما نعنيه بالتفاوت بعبارة كثيفة العمق بقوله: (علم اليقين كالناظر إلى البحر، وعين اليقين كراكب البحر، وحق اليقين كمن غرق في البحر)، ولسنا نقصد بالتفاوت تراتبية العلوم من حيث أشرفيتها وعلو منزلتها، إذ إننا نتعاطى مع العلوم الطبيعية دون العلوم الشرعية، وهذا ما يبعد ذلك اللون من التراتبية في هذه المطارحة الفلسفية، وهذا إن سلمنا جدلاً بمسألة تراتبية العلوم الشرعية من حيث الأصل، فهي مسألة محل نقاش.
وتأسيساً على ما سبق، يمكننا القول إنه من غير المعقول أن نساوي بين علوم صلبة المنهج كالرياضيات والفيزياء والكيمياء بعلم كالفلك - مع تقديرنا لإنجازاته وفتوحاته الكبيرة - ونعني بالمساواة هنا مقدار الضبط المنهجي الذي تحظى بها تلك العلوم وما يترتب عليه من درجة الموثوقية والاعتمادية التي يمكننا وضعها في نتائج تلك العلوم التي يمكن تقسيمها إلى قطعيات أو يقينيات، وتصدر عن العقليات والمجربات والبدهيات والفطريات والمتواترات، فالرياضيات - مثلاً - علم عقلي قياسي منطقي تجريدي؛ شديد الإحكام والضبط من حيث منهجيته بما في ذلك عمليات التصور والتحكم بالعوامل أو المتغيرات التي يدخلها الرياضيات في (مطبخه المنهجي) لتوليد نتائج مقبولة علمياً لتوافرها على حجج وبراهين قطعية، ومن ثم تحصّنها من خروقات أو مساءلات التفكير الفلسفي، ويسعنا أن نقول نحواً من هذا بخصوص علوم صلبة أخرى كالفيزياء والكيمياء.
أما الفلك فهو في مرتبة أدنى ولا شك، حيث إنه لا يمكننا منحه صفة العلوم الصلبة، هذا بإطلاق، ويتأكد هذا المعنى، إذ نظرنا إلى بعض فروع الفلك التي منها ما يسمى بالقياسات الفلكية التي تعنى بدراسة موقع الأجسامِ وحركتها في السماءِ وتغييراتِ مواقعها وصولاً لبعض النتائج من خلال الاعتماد على بعض المعادلات الرياضية. ويهمنا التأكيد على أن المعادلات الرياضية بشكل عام - دون الدخول في تفاصيل المعادلات الرياضية الفلكية وتعقيداتها - تشتمل على: ثوابت ومتغيرات وعمليات أو علاقات رياضية محددة تبنى على نظرية أو فرضية معينة، وهنا نتبين أن ثمة ثلاثة مصادر للخطأ في تلك المعادلات، إذ يمكن أن يكون ثمة خطأ في قيمة الثوابت في المعادلة، أو خطأ في المتغيرات، إما بإدخال ما لا يجب إدخاله أو بإغفال ما يجب تضمينه في تلك المعادلة، والمصدر الثالث للخطأ ينبع من التحديد الخاطئ للعملية أو العلاقة الرياضية بين ثوابت المعادلة ومتغيراتها. وأحسب أننا نكون أكثر حساسية للأخطاء التي يمكن أن تتضمنها المعادلة الرياضية الفلكية إذا تذكرنا أن الخطأ المتضائل في الصغر قد يحدث تشوهاً كبيراً في النتائج التي قد تتمثل في عدم قدرتنا على تحديد متى يمكننا رؤية الهلال، وهي المسألة التي انطلق منها هذا الحوار. فالفعل الفلسفي - الذي نطالب بأن نُمكّّّن من ممارسته تجاه العلوم الطبيعية - كالإجراءات الأمنية الواجب اتخاذها في حياتنا في مختلف الحالات، ففي أوقات الاضطراب والشك، تنشر الفلسفة مزيداً من نقاط التفتيش في السبل الملتوية والمنعطفات المتشعبة والطرائق المنحدرة والثقوب المريبة، وهي لا تكتفي بتفحص (هوية العلم) التي يبرزها المتخصصون؛ بل تعاين وتتحقق وتتأكد من الداخل والخارج والظاهر والباطن والصريح والضمني، وتتحرى عن العلاقات بين العوامل والمتغيرات، وتشم وتلمس وتتذوق وتتحسس كل شيء...
فهل يسوغ أن ُنغفل بعد أن فطنا لذلك المعنى مسألة تفاوت العلوم فيما بينها؟ هل يمكن أن نجدد مبرراً منهجياً للدكتور المزيني في صبه لعلم الفلك في قوالب العلوم الصلبة ودفاعه المستميت عن بعض قياسات واجتهادات رقمية؟ أليس في هذا ظلم لعلم الفلك نفسه قبل أن يكون ظلماً للعلوم الصلبة؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك المسلك الميكانيكي التسطيحي للعلوم إلى موجة من (الكفر) بالعلم الحديث لدى شريحة من الناس حين يقفون على خطأ علوم بالغنا في علميتها مع أنها قائمة على مجرد اجتهادات وقياسات تتضمن مصادر خطأ متعددة؟ خصوصاً أن الدكتور شديد التخوف - لدرجة البكاء الفكري - من أي موقف علمي يمكن - كما يقول - (أن يستغله الأيديولوجيون والمعادون لبعض مقولات العلم في معاداة العلم نفسه) (انظر مقاله: (الحساب الفلكي بين القطعية والاضطراب)، الوطن، 6- 10-2005م).
والحقيقة أنني لم أبرح عاجزاً عن أن أجد متكئاًً منهجياًً مقنعاً يسوّغ رمي الدكتور حمزة لمخالفيه ب (معاداة خفية) للعلم، ولا سيما أننا نجد متسعاً فلسفياً لأن نتطارح حول مسائل كهذه، (معلنين) عن مسوغاتنا وحججنا ومزاعمنا حول إجراءات منهجية أو نتائج لم نسلم بأنها أضحت علماً يقينياً يجب احترامه والكف عن مساءلته؟
وها هنا يجب أن نقرر - بحزم منهجي - أنه لا يسوغ البتة أن نستورد أوصاف العلم وخصائصه ودرجة علميته من المتخصصين فيه، إذ إن ذلك معرّض وبدرجة كبيرة للتشوه من جراء التحيز للتخصص أو الحماس المفرط الذي قد يبديه بعض المتخصصين وبالذات (غير الممنهجين)، مع الإشارة إلى أن ذلك التحيز قد يكون مباشراً أو غير مباشر، شعورياً أو لا شعورياً، كما يلزمنا التأكيد على أن كل حقل علمي لا محالة مدرك نصيبه من التحيز، قلَّ ذلك أو كثر، دقّ أو جلّ، خفيَ أو علم. وفي هذا السياق نذكر - مثلاً - قدر الهالة التي خلقها بعض المتخصصين حول (دراسات المستقبل) حين زعموا أن ذلك الحقل ظفر بمقومات العلمية ليكون (علم المستقبل)Futurology وكأن ما ينقصنا فقط هو أن يأتي عالم أو باحث، ويضع كلمة (لوجي) في مؤخرة (الحقل المعرفي) ليستحيل علماً محترماً! هذه صورة متطرفة لحقل معرفي (زاد ثوبه على قامته)، ولكنها صورة حقيقية، وهي رمزية لما ننشد إيضاحه.
كل ما سبق يوجب استدعاء حقيقة أن الفعل المعرفي الفلسفي - أو ما يسميه بعضهم بعلم العلم - هو وحده المسؤول عن تحديد ماهية العلم وحقيقته وحدوده، فهو الذي يمنحنا الإطار المرجعي الذي نمايز من خلاله بين العلم، واللاعلم، والصائر أو المحتمل لأن يكون علماً بعد أن يفي بالشروط الفلسفية ويدفع التكاليف المنهجية، ومن ثم يحظى بالعضوية الدائمة أو المؤقتة؛ المشروطة أو غير المشروطة؛ العاملة أو غير العاملة في (جمعية العلوم)... فكل بحسبه، ومن صب العلوم الطبيعية كلها في قالب واحد، فقد تجاهل مبادئ علم العلم، وهو يمارس إذ ذاك جناية كبيرة على العلوم ويعرضها للنسف والإقصاء من حيث يعتقد أنه يحميها!
وقد يكون ملائماً أن نكتفي بهذا الحد، لنواصل هذا النقاش المعرفي في حلقة قادمة بعون الله.

د. عبدالله البريدي



نادي السيارات

موقع الرياضية

موقع الأقتصادية

كتاب و أقلام

كاريكاتير

مركز النتائج

المعقب الإلكتروني

| الصفحة الرئيسية|| رجوع||||حفظ|| طباعة|

توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية إلىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية إلى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved