محاضرة ألقاها رئيس التحرير الزميل خالد المالك يوم الرابع عشر من شهر نوفمبر
بقاعة مديرية الثقافة في مدينة حلب بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام
ومن يريد أن يتحدث عن حلب، لا يمكن أن يقول شيئاً عن شبكة إنجازاتها دون أن يثير انتباهه ما كتب عن قصة ذلك الفنان الفرنسي (جوليان فايس) الذي جاء إلى حلب زائراً لها، راغباً بمعرفة شيء عن إرثها الفني الهائل، حتى إذا ما اقترب موعد وداعه ومغادرته لها، وبينما هو في جولته المسائية في الجزء القديم منها.
وأثناء دخوله إلى أحد مساجدها؛ لمعرفة ما يدور بحلقة الذكر المقامة آنذاك، ولما شعر به لحظتها من أن الفراغ الروحي لديه قد زال بتفاعله مع حلقات الذكر، فقد قرر مباشرة تمزيق بطاقة السفر، ومن ثم الإقامة الدائمة في هذه المدينة التاريخية، حيث تعلم اللغة العربية لاحقاً، ومن ثم حفظ القرآن الكريم.
اسمعوا بعض ما قاله هذا الفنان الكبير: لقد أمضيت أياماً وأنا أتجول بين مساجد حلب القديمة مستمتعاً بحلقات الذكر التي تقام فيها ليلاً.. إلى أن يقول: ومن خلال مواظبتي على المساجد تفهمت حقيقة الدين الإسلامي، وأنه هو العالم الذي كنت أبحث عنه منذ طفولتي؛ ولذلك ومن دون تردد اتجهت إلى أقرب مسجد ونطقت بالشهادتين وأشهدت الحضور على إسلامي، واسمي الجديد أصبح من الآن جوليان جلال الدين.
***
ومن جانب آخر فها هو ذا الفيلسوف (أرسطو) يبدي إعجابه بحلب مفضلاً إياها على سائر المدن الأخرى، فقد كان مقتنعاً بأن به مرضاً ليس له من علاج يشفيه إلا هواء حلب، مستحسناً ومفضلاً أن يبقى فيها على أن يرافق (الاسكندر) إلى المدن التي اكتسحها، وكل هذا يظهر لنا بجلاء كم كان لهذه المدينة الجميلة من أهمية منذ أزمنة سحيقة، ولماذا ظلت إلى اليوم تحتفظ بمكانتها وأهميتها وتاريخها بين المدن الأخرى.
ويحسن بنا أن نشير أيضاً إلى أن الكثير من الأوروبيين قد أعجبوا بهذه المدينة أيما إعجاب، بدليل ما قاله عنها (رامبليز) الإنجليزي منذ قرن ونصف من أنها (لندن الصغرى)، بينما أطلق عليها الشاعر الفرنسي (لامارتين) اسم (أثينا الآسيوية) إضافة إلى أن (شكسبير) ذكرها مرتين في شعره.
* * *
ومن المثير للانتباه أن اهتمام الرحالة والمستشرقين بحلب كان كبيراً، وأن صلتهم بهذه المدينة لم تنقطع، فقد قصدها الحموي وابن جبير وابن بطوطة والمقدسي والحميري، بل إن بعض الرحالة وصفوها بأنها أجمل مدن الإمبراطورية العثمانية، وأنظفها وأحسنها مناخاً، كما قصدها الكثير من الشعراء، وكتبوا فيها أجمل القصائد التي عبروا من خلالها عن إعجابهم بطبيعتها وجمالها الأخاذ، وبما تميزت به مبانيها من فن هندسي بديع.
ومهما حاولت أن أعطي مدينة حلب حقها من الوصف لهذا التميز الذي أشرنا إلى شيء منه، فلن أبلغ بذلك ما بلغه أكابر الشعراء في مدائحهم لهذه المدينة، فقد تغنوا بها وحظيت منهم بما لم يغدقوه على غيرها من المدن الأخرى، وقد يكون من المناسب أن أستعرض شيئاً قليلاً مما قيل من شعر فيها.
يقول المتنبي:
كلما رحبت بنا الروض قلنا: |
فيما يقول الأخطل الصغير:
لو ألف المجد سفراً عن مفاخره |
أما الوزير أبو القاسم المغربي فيقول:
يا صاحبي إذا أعياكما سقمي |
فلقياني نسيم الريح من حلب |
من البلاد التي كان الصبا سكني |
فيها وكان الهوى العذري من أربي |
وها هو الشاعر الأندلسي ابن سعيد يقول عن حلب:
فيما جادت قريحة ابن الوردي بقوله عن حلب:
فقلت: القلب في جهة الشمال |
وهذا بيت من قصيدة لجميل عقاد يتغنى فيها بحلب:
ومن بين المدائح التي قيلت في حلب ما قاله سعد الدين بن عربي:
إن حلب - وباختصار - مثلما قال عنها بعض الشعراء:
وبنائها والزهر من أبنائها |
نور الغزالة دون نور رحابها |
والشهب تقصر عن مدى شهبائها |
طلعت نجوم النصر من أبراجها |
وإنها أيضاً من قال عنها الشاعر:
وهذه الأبيات التي اجتهدت في انتقائها لا تعدو أن تكون نماذج فقط من أشعار قيلت فيها؛ إذ لو أردت أن أسمعكم المزيد من عيون الشعر التي قالها كبار الشعراء عن مدينة حلب، فأجادوا في وصفها، وفي تصوير علاقتهم بها، لما اتسع الوقت لذلك، غير أن قليله قد يغني عن كثيره، فضلاً عن أنني على يقين بأنكم تحفظون ما قيل عن حلب - من باب الوفاء - من هذه الأشعار الشيء الكثير.
* * *
ومع أن منظمة اليونسكو تعتبر مدينة حلب مدينة تاريخية هامة، لاحتوائها على تراث إنساني عظيم يجب حمايته بحسب ما جاء في موقع المنظمة في الشبكة العنكبوتية، فإن أكبر خطأ حضاري - وهو ما نبه إليه بعض من قرأت لهم من المهتمين - ما قالوه من أن النسيج العمراني لأحياء المدينة القديمة قد تعرض بعضه للتغيير، حيث أزيلت بعض الدور القديمة، وحلت محلها الأبنية ذات الطوابق العالية، وما صاحب ذلك من شق لشوارع عريضة، وهدم لبعض الأسوار، وغير ذلك من الإحداثات في معالم المدينة الأثرية التي مسها التغيير، لتختفي بذلك أقسام كبيرة من بعض الأحياء، في ظاهرة لا تقتصر - بنظري - على مدينة حلب فحسب، وإنما تكاد لا تسلم منها مدينة واحدة على امتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
على أن كثيراً من الآثار في حلب لا تحتاج إلى إصلاحات كبيرة كما يقول بذلك الدكتور محمد أسعد طلس في كتابه (الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب) مشيراً إلى أن بعضها يحتاج فقط إلى ترميم بسيط، مع ضرورة إزالة بعض الحوانيت التي أقيمت حولها، وكذا رفع بعض الحواجز والحيطان التي شوهتها، بالإضافة إلى تنظيف الواجهات، وما إلى ذلك من ملحوظات سجلها من خلال وقوفه على هذه الآثار ومشاهداته لها.
لكنه يضيف إلى ذلك - وكأنه يستحث الجميع لإظهار المزيد من الاهتمام - أن هناك بعض الآثار التي بدلت تبديلاً واضحاً، أو أضحت منذ قرون مهملة تمام الإهمال، حيث يسكنها الفقراء، ويبنون فيها أو عليها ما يشوه جمالها، أو يشيدون بحجارتها الأثرية القديمة غرفاً ومنتفعات لهم، أو يشيدون الشبابيك والأقواس، أو يحفرون الأرصفة والساحات لوضع أعمدة محدثة، أو يشوهون الحيطان والقباب بالدخان والسخام، وأن أحد الآثار قد حولت قاعته إلى مزبلة، والأخرى إلى مراحيض، وأن أثراً آخر وهو من أجمل الآثار قد تحول إلى خراب تتقذى منه العين.
* * *
وقد تحدث عن بقية الآثار فنقل في كتابه صوراً مماثلة عن حالتها، بما ينبغي أن يكون اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية محفزاً لتكاتف الجميع نحو العناية والاهتمام بآثار حلب التاريخية، ووضع برنامج طموح يعيد لآثار هذه المدينة ما فقدته من قطع وأحجار وزخارف فنية، وإعادتها إلى أماكنها مثلما يقترح مؤلف الكتاب، فضلاً عن الشروع في إعادة الترميم والتحسين لكل واجهات هذه الآثار، دون المساس بمواصفاتها أو بشكلها الخارجي الذي بنيت فيه.
ولا بد من التنويه والاستدراك إلى أن هذه الانطباعات والمشاهدات والملحوظات التي أشار إليها الدكتور طلس عن وضع الآثار في حلب وردت في كتابه الذي صدر منذ نصف قرن، ما يعني - ربما - أنه تم خلال هذه الفترة الطويلة تدارك هذه الأخطاء وتجاوز هذا القصور بإصلاح ما كان موضع ملاحظة منه، لكني أردت أن تكون من ضمن ما تستمعون إليه من باب التذكير بأهمية صيانة آثار حلب، والمحافظة عليها، وإعطائها الأهمية التي تستحقها، مع ثقتي بأن أحداً من القائمين أو المسؤولين لن يكون موضع ملاحظة نسبة لثقتي بعنايته واهتمامه بها.
* * *
وفي تصوري أنه لا يليق أن تعامل آثار حلب بغير الحرص على حمايتها من نزعة التغيير التي مست مدناً أخرى في عالمنا العربي والإسلامي، فشوهت صورتها، بأن نزعت منها تلك الجواهر النفيسة التي كان يمكن لها أن تتزين بها، كلما حل ضيفاً عليها، أو زائراً يريد أن يتعرف عليها، أو باحثاً عن مخزون ثقافي تتميز به ولا يوجد في غيرها.
ومن الضروري أن تحافظ مدينة حلب عند أي إحداثات جديدة على شخصيتها ومكانتها، ومن غير أن تنسلخ من هويتها التي تمتلك كل هذا الثراء المعرفي والتراثي والفني الذي لا مثيل له في مدينة أخرى.
وقد يكون من ضمن هذا الاهتمام المطلوب - كما أتصور - ترميم ما قد يكون قد تأثر سلباً بفعل عوامل الزمن من مساجدها وكنائسها وقلعتها وحماماتها وأسواقها وغيرها، وأن يعاد إليها أدوارها ووظائفها وتخصصاتها ومكانتها بمثل ما كانت عليه عند إنشائها.
ولا أعتقد أنني أجانب الصواب، حين أذهب إلى أكثر من ذلك، فأدعو إلى تكريم الرموز والنوابغ الذين ولدوا أو عاشوا في حلب، من شعراء وأدباء وعلماء ومثقفين ومؤرخين وعلماء تراث وفلكيين وأطباء ومعماريين وغيرهم، ممن قدموا للإنسانية انطلاقاً من حلب ما جادت به عقولهم من فكر وابتكارات وبناء شامخ إلى اليوم، وكذلك ممن كتب عنها وأرخ لها من غير أهلها، وهو تكريم ينبغي ألا ينتهي بانتهاء هذه المناسبة، وإنما يجب أن يكون من نوع ذلك التكريم الذي يبقى خالداً وشاهداً على مكانة حلب وقيمتها في التاريخ، ودليلاً على وفائها مع من ارتبط اسمه وجهده باسمها ومع منجزاتها.
* * *
ولا أزعم أنني أكثر من الحاضرين أو المسؤولين عن تنظيم هذه المناسبة حرصاً على العناية بهذا التراث الخالد، حين أدعو إلى امتداد الاهتمام الداخلي بحلب ذات التراث العمراني والرصيد الثقافي والعلمي والفني والاقتصادي سنوات أخرى، يتم خلالها استكمال ما ضاق الوقت دون إعطاء حلب حقها من الإصدارات والمحاضرات والندوات التي تليق بما أنجز على هذه الأرض الطيبة من إبداع وابتكار، حيث ينبغي الغوص في أعماق مسيرة هذه المدينة مع التراث والعمران والشعر والأدب والتاريخ والاقتصاد وبكل التفاصيل التي نرى في معالمها شاهداً على مكانة حلب التاريخية، وقيمتها وأسبقيتها في مختلف مجالات الفنون والإبداع، أقول ذلك وأنا على يقين بأن سنة واحدة - وإن تضافرت الجهود - لا تكفي لتنظيم برنامج يلبي استحضار كل ما يمكن أن ينصف مدينة حلب ويعطيها حقها، ويستجيب للمتطلبات في تقديم حلب إلى العالم بوجهها الحقيقي وبوصفها عاصمة للثقافة الإسلامية.
* * *
وفي نهاية ما استمعتم إليه أود أن أذكركم بأن كلامي هو عن بعض حلب فقط، وعن شيء من أصالتها ليس إلا، فماذا عنها كمدينة معاصرة؛ أعني أين موقع حلب بين الأصالة والمعاصرة؟!.
أعتذر لكم عن الإطالة، وأشكركم جميعاً على تكرمكم بالحضور، وأشكر من دعاني للقاء بكم، ولكل من كتب عن هذه المدينة فساعدني في تقديم بعض ما استمعتم إليه من انطباعات واجتهادات، بأمل أن أكون قد وفقت في تقديم ما يليق بمدينة حلب وبنصف تاريخها، فنحن مع المتنبي:
انتهت..
|