ونحن في مطلع موسم آخر، ونستشرق عاماً (دراسياً) جديداً، بعد بياتٍ أزف على المائة يوم، لعل إثر ذلك (التوقف) نعود إلى خضم الحياة تجديفاً - تارة أخرى - ولعل اثر ذلك (البيات) تعود الهمة نشطة تملؤها الحيوية، لأورد (نقاطا) علها - أو إحداها - تستشف هوى من يرى في قدراته ما تُملي حولها مفكرته عنها، وأعرضها أيضاً على من يجد في نفسه أهلية للكتابة عن هذه (النقطة) أو تلك، فيبحر لنا فيها، وعنها ما يفيد (القراء) من بعد أن يستفيد هو - أو بما تسلبه أخيلته نحوها، وهكذا.
لأنها - أي: الكتابة - فعلٌ منتج، أو هو تفاعلٌ إنساني غالبا ما يكون مبدعا - أو هكذا يطلب فيه، وذاك عن المؤثرات الاجتماعية في قلب وعقل الكاتب، فتتحول في مختبره إلى شيء سامٍ وراقٍ، ما يوصف بـ(الكتابة).
فهي ليست ترفا كما قد يظن من لا يقرأ إلا العناوين، أو ذاك الذي يكتب كيفما اتفق!
إنما هي معادلة معقدة من المؤثرات والتفاعلات والنتائج المتعددة اثرها.
فالكتابة لدى الكاتب هي حياة له، أو الحياة نفسها، في وصفها حياة بالنسبة للآخرين، وهي الحياة نفسها بالنسبة للكاتب أو من امتهنها ولا غيرها.
وفي هذا يوجز جبران إبراهيم جبران عن كينوتها: (الكتابة عندي دلالة في الحياة، أي أنها العيش بشكل مضاعف وغزير ومُلح).
أو.. التي استفز بها كل من لديه قلمٌ (سيال) وفكرٌ وقّاد علها تثيره، ليسبر غورها ويُثري لنا عنها بخاصة (المتخصص) - إذ هو سيّد فنّه.إذ.. لا أود أن أستأثر بقلمي - وإن حسبته (مع بعض المحبين) أهلاً لهذا - عن جهد القارئ المجد.أو منها:
18- الشرق الأوسط: هل دار في خُلدك يوماً: ما معنى هذه التسمية!، أو سبب هذا النعت على منطقتنا؟
وهنا يبرز الاستفهام.. عن: ما هو شائع في مراد.. هذا المصطلح لـ(الشرق الأوسط) الذي يُتداول إعلامياً، حتى أمسى علما على منطقتنا، لا خصام في إيراده؟
والجواب: ولا بأس بالاستطراد.. للإيضاح بخاصة وأنه يكثر في تداوله خطأ فالعادة المخالفة للشرع، أو (الحق) لا يُعتدّ بها.. مهما بلغت من الرسوخ أو تبنت بحجة كُثرة التداول!
تنظر أوروبا وبخاصة أقطابها (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) إلى أنها مركز رحى العالم، جغرافياً وتاريخياً وثقافيا وحتى بشريا.
ويجلّى عن هذا: أن أول من صعد قمة جبال الهملايا هو بنغالي أرسل الحبل إلى الإيرلندي (منوف)، فهو بهذا يُعتبر صعد قبله، لكن أولئك يرون أنفسهم - فقط - البشر، لهذا ينسبون فعله والمجد هذا له هو بـ(الأوّل)!... وهكذا.
فمن الناحية الجغرافية يُقسمون العالم بناء على موقعهم، فيقولون عن الهند وما وراءها بالشرق الأقصى، وتركيا واليونان بالشرق الأدنى، والدول العربية (نحن) ب(الشرق الأوسط)،.. وهذا التقسيم حلّ: بعد الحرب العالمية الثانية إذ تم إطلاق هذا الاسم على (المنطقة العربية) وإن كان البعض.. ك (د. خالص جلبي) يعزو سبب ذلك إلى رحلة (ماجلان) التي غيرت جغرافيا العالم ووجه التاريخ بالنسبة لهم، أي (الغرب).
أما تاريخياً، فينسبون قرون ازدهار العالم الإسلامي بالقرون المظلمة كذلك بالنسبة لهم!
وكأنهم يثبتون ما قيل (لا ينسى ماضيه.. إلا: حقير استعلى، أو فقير استغنى) أو لكأنهم يغيبون حكمة (التداول) للأيام كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(140)سورة آل عمران. فالدهر يومان، يوم لك ويوم عليك فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فته على الدهر. لكنهم يلزمون الآخرين بوضع هذا النعت على تلك (الحقبة).
بخاصة بعض من اغترّوا بأولئك - ممن مسك دفة الإعلام - فأصبحت كلفظة (القرون الوسطى) التي: تُتداول بين أناملهم وفي خضم تسطيرهم عن عصر أولئك الميّت؟ وهذا نتاج.. مما انفتحت علينا الأفكار بثقافات منهمرة الفتني لهذا.. وأنا أقفوا بعينيّ ما يسطّره بعض المحسوبين علينا: (مثقفين) كما تعلق (المجلة العربية) عدد 354.. في مقام الذم لتلك الحقبة؛ لكونها عصور تخلّف وانحطاط، حتى يقول بعضهم في سياق التنفير: (هل تريد أن تعيدنا إلى القرون الوسطى؟)، وهذا صحيح بالنسبة للغرب، أما تلك للعالم الإسلامي: فهي عصور النهضة والحضارة والتقدّم، وفرق بين التصورين.
أما بشريا فهذه ما لا تحتاج إلى طويل خطاب ويكفي نعتهم لغيرهم ب(العالم الثالث) أو النامي - بدلا وتحسينا عن القول بالنائم -، ثم سلب بعض الإنجازات البشرية ونسبها إليهم.
ولا غرو لفعلهم هذا، فالمنتصر هو المتحدث، وهو المُصدّق لدى الآخرين مهما دحضت حجته.. من قبل صاحب الحق الأصلي!! ولهذا.. قال (تشرشل): (سوف يذكرني التاريخ بخير، طالما أنني سوف أكتبه بيدي).
وهكذا أمسى حالنا، أو مقامنا بين الأمم؟! ونحن الذين يجب - وهو الحق -: أن نكون المثال للأمم، بل والقياس الحقيقي على صلاحها، فينا وفي مثلنا وتوسطنا وأوسطية ديننا ومنهجنا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (143) سورة البقرة. وإن كان بعض من بني جلدتنا - بخاصة المتنفذين أو أولئك السلطويين على الإعلام بخاصة - سلّم بهذا - بل وسوّق بقصد (أو لجهله) هذا.
19- جديد.. ليس بجديد:
لا تقل عن الرأي الذي قد تسمعه.. في آواخر سنّك، أو ذاك الخارج عن الإجماع مما له وجه دلالة صائب أو تحسبه لقلة تداوله ب(الشاذ)!
فقد يكون جديداً فقط عليك.
و.. قد نظم الإمام ابن حزم:
وأثبت ما يكون الأمر يوماً |
وأذكر قولاً - من فتوى - لابن عثيمين رحمه الله - جاء فيها: كم من مسألة غريبة على أفهام الناس، يظنون أن الإجماع محقق، فإذا بُحث الموضوع وجد أن لقول هذا الرجل من الأدلة ما يحمل النفوس العادلة على القول بما قال به واتباعه - كتاب (إلى متى هذا الخلاف). ص 40
فليس كل خلاف بمعتبر
إلا خلاف كان له حظ من النظر
هذا،.. عدا ما أومأ إليه أبو سعيد القرشي - في أرجوزته:
وربما تصادف الضرورة
بعض لغات العرب المشهورة
20- العادة:
هل نما إلى علمك أن (العادة تقتل الدهشة) والتكرار يقضي على الانبهار! إذ خذ الأولى: اعتيادك - بعد المرة الأولى - النظر إلى ما يعجبك (زوجتك الجميلة) مثلاً: تتغير لا.. جمالاً! بل إعجاباً.. إلى اعتيادية (دهشتك) أو إفراطك في رؤيتها!
ومن هنا ينصح علماء النفس ب(التغيير) لا في الشكل، بل السلوك حتى يحرك الراكد النفسي للآخر.. لهذا المنظر.. الذي تُعوِّد.
والثانية في ما يبهرك.. حتى يقضي على انبهارك ب(تكراره)!
وإليك أقرب مثل (الجوال)، فهل استقرأت مرة واحدة مدى ما بلغه العلم والتطور حتى وصل إلى يديك.. وبلمسات من أناملك تبلغ فيه محادثة أبعد مكان في العالم.. هذا خلاف التقنيات التي بين جنبيه، فهو (ذاكرة) وحاسبة ومنبّه وساعة، وتصويره، وتسجيل (فيديو)، وتسجيل صوتي.. وربما نقل حي ل(الصورة والصوت) لمحدثك - كما في الجيل الثالث منه -.. إلخ.
وكذا تُثري عن حالات أُخرى الأديبة (أمل زاهد):
(وحتما يتناسل من إيقاع العادة ورتابة التكرار تبلد المشاعر وجمود العواطف وتصحرها، فتفقد الأحداث الجلل هيبتها وتخلع عنها نياشينها وقوتها؛ لتتحول إلى مجرد خبر في صحيفة أو صورة مفجعة في نشرة أخبار تخطف أبصارنا لوهلة ثم لا تلبث أن تأخذ دهشتها معها وتروح وتخلينا أو يتحول الحدث المهيب إلى رقم بائس في قائمة تسجل فيها أسماء الضحايا أو المفقودين..!!) الثقافية: عدد 169 .
21- روح الصيام: ونحن نترقب بلوغ شهر الخير.. (رمضان) أحببت أن أُذكر بحقيقة الصوم أو الوجاء من كل ما يغضب الله، والذي سبق أن ذكرته وذكّرت به في نشرة لي بعنوان (باقة رمضانية) صدرت في رمضان 1426هـ بعنوان (حقيقة الصيام) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف امرئ أدرك رمضان ولم يُغفر له) أخرجه بنحوه ابن حبّان.
ليعلم أن الصيام (صيام الجوارح)، كما قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك!.
ويقول ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (رياض السامعين): الله الله، عباد الله، صوِّموا جوارحكم عن المنكرات، واستعملوها في الطاعات، تفوزوا بنعيم الأبد في قرار الجنات والتمتع بالنظر إلى جبار الأرض والسموات).
فزاد (الروح) أرواح المعاني |
وقد قيل: مثل شهر رمضان كمثل رسول أرسله سلطان إلى قوم، فإن أكرموا شأنه وعظموا مكانته وشرفوا منزلته من الإكرام، رجع الرسول إلى السلطان شاكراً لأفعالهم مادحاً لأحوالهم راضيا لأعمالهم، فيُحبهم السلطان على ذلك فيحسن إليهم كل الإحسان.
وإن استخفّوا برعايته وهونوا لعنايته ولم ينزلوه منزلته من الإكرام، وفعلوا به فعل اللئام، فيرجع وقد غضب عليهم من قبيح أفعالهم وسيئ أعمالهم فيغضب السلطان لغضبه، كذلك (ولله المثل الأعلى) يغضب الله سبحانه وتعالى على من استخف بحرمة شهر رمضان.
فهل تجد ما يوازي ذا (الموسم) لكي يُرجى الغفران - طبعا سوى (حج مبرور) كما ورد:
22- الغنى والفقر:
اسمحو لي أن أفلسف قليلاً:
قلما يدرك (الفقير) أن الغني بلغ مرحلة لا أقول التشبع من الدنيا، بل (الملل) من كل شيء وذاك أن غالب ما يشتهي يناله.. ب(ماله).
وهذه حال لا يقتنع بها إلا ممن بلغ (فعلاً) تلك الدرجة.
ولعلي لا أطرق مستحيلا - في تقريب لهذا (الحال)، وأبسط مثال.. بعض أواسط دول إفريقيا ودول مثل السويد - أغنى.. شعب -هل تعلم أن أكبر نسبة (انتحار) في العالم هي في السويد - هذه الأمة الغنية، والبعيدة عن مشاكل العالم، أو التي كُفيت مؤونة جناحي العيش الرغيد: (الأمن، والثروات) كما قررها القرآن في قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(4) سورة قريش.
في الوقت الذي قلما تقرأ فيه عن حالة انتحار.. في تلك المجتمعات التي تتضور جوعا ولا تجد - أيضاً - ما يستر غالب حالها، وجسدها!
فهل بلغت (الفكرة) لذوي العقول الحصيفة التي يكفيها - ونحن أمة الحق والدين المرتضى - الإيمان وصدق التوكل والتسليم للمعطي والمانع، ف(لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع) سبحانه عز اسمه، وجل ثناؤه.. وبلغت حكمته.
23- همٌّ.. (عام):
من الناس من لا يحرك فيه هم الأمة إلا نزراً - ربما إبراء من أن يقال فيه: ميت الحس - وهذا الصنف ربما من عناه قول الشاعر:
فهو سالم إلى درجة (السلبية) التي لا تحرك فيه أي شعرة من النخوة والإقدام إلى العون.. كيف لا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول: (والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه).
بل وبلغ حمل هم الغير درجة تضعيف الإيمان لمن لا يحرك فيه.. ساكنا، ففي الأثر (من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) وإن ضعفه بعض محققي الحديث، إلا أن معناه صائب،.. ف(المسلمون تتكافى دماؤهم ويقوم بأمرهم أدناهم) صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهل دار في خلدك أيها السلبي - هذه المعاني الجليلة، في أن تكون مباركا أينما كنت.. وذاك في شفاعتك ومؤازرتك.. وتفاعلك مع هموم الآخرين والحكمة المشهورة: (إن لم تزد على الدنيا كنت أنت زائداً عليها).
وختاماً..
و.. (أنا) أنُهى تبييض هذه المادة، نما إليّ خبر رحيل رجل الخير - في الكويت.. وذي الأيادي البيضاء على جمّ من جراح المسلمين.. الإصلاحي الكبير، وقائد (جمعية الإصلاح في الكويت): الشيخ والداعية الكبير (عبدالله بن علي المطوع) رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه في عليين - وذاك عن عمر مديد قضاه - في ما أعلم - بخير وجهاد وبذل وعطاء فلم أجدني إلا وقلمي يلح عليّ كتابة هذه الأسطر القليلة في حقه ومقدار مقامه، ف(إنا لله وإنا إليه راجعون).
وإنني لأُعزي نفسي به.. وأمثاله، كما أعزي كل من يعرفه أو سمع عنه وعامة المسلمين، ف: رحماك اللهم ربي، فإن مصابنا به عظيم، وفقدنا إياه خسارة قلما تُعوض، خصوصا في هذا الوقت الذي قل فيه المعين، ونضبت فيه المعارف وجفت منابع الجود.
- لا بالمال أعني، بل.. بالجهد والجد، والعزيمة - ولم يعد لها طالب يرغب أو باحث يستفيد، مع تكاثر المادة وتهافت الناس عليها وانصرافهم عن طلب العلم النافع.. إلا ما شاء ربي.رحمك الله يا (أبا بدر)، فقد فقدنا فيك طيبا وصادقا عطوفا.. ولكن سنة الله في عباده فالحمد لله على قضائه وقدره، وأبشر فلن يموت من تلهج الألسنة بذكراه الطيبة وسيرته الحميدة.. مع الثناء عليه والدعوة له بالرحمة والغفران.و.. والله إن المرء ليحزن لرحيل أمثاله مرتين:
الأولى: على خسارة مثل هذا المعطاء.. والفذ في مجاله.
والثانية: أن هذا أي (رحيل الصالحين) نذير خطير، وانحدار في توجه مركبة الأمة إلى ما لا يعلم إلا الله.. المآل، وكم أحسنت (لنا).. وبنا: قناة (المجد) حين خصصت حلقة (خبر وتعليق) عنه، وهذا أحسبه من أقل حق.. من يستحق، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
albayan62@yahoo.com |