ونحن في مطلع موسم آخر، ونستشرق عاماً (دراسياً) جديداً، بعد بياتٍ أزف على المائة يوم، لعل إثر ذلك (التوقف) نعود إلى خضم الحياة تجديفاً - تارة أخرى - ولعل اثر ذلك (البيات) تعود الهمة نشطة تملؤها الحيوية، لأورد (نقاطا) علها - أو إحداها - تستشف هوى من يرى في قدراته ما تُملي حولها مفكرته عنها، وأعرضها أيضاً على من يجد في نفسه أهلية للكتابة عن هذه (النقطة) أو تلك، فيبحر لنا فيها، وعنها ما يفيد (القراء) من بعد أن يستفيد هو - أو بما تسلبه أخيلته نحوها، وهكذا.
لأنها - أي: الكتابة - فعلٌ منتج، أو هو تفاعلٌ إنساني غالبا ما يكون مبدعا - أو هكذا يطلب فيه، وذاك عن المؤثرات الاجتماعية في قلب وعقل الكاتب، فتتحول في مختبره إلى شيء سامٍ وراقٍ، ما يوصف ب(الكتابة).
فهي ليست ترفا كما قد يظن من لا يقرأ إلا العناوين، أو ذاك الذي يكتب كيفما اتفق!
إنما هي معادلة معقدة من المؤثرات والتفاعلات والنتائج المتعددة اثرها.
فالكتابة لدى الكاتب هي حياة له، أو الحياة نفسها، في وصفها حياة بالنسبة للآخرين، وهي الحياة نفسها بالنسبة للكاتب أو من امتهنها ولا غيرها.
وفي هذا يوجز جبران إبراهيم جبران عن كينوتها: (الكتابة عندي دلالة في الحياة، أي أنها العيش بشكل مضاعف وغزير ومُلح).
أو.. التي استفز بها كل من لديه قلمٌ (سيال) وفكرٌ وقّاد علها تثيره، ليسبر غورها ويُثري لنا عنها بخاصة (المتخصص) - إذ هو سيّد فنّه.إذ.. لا أود أن أستأثر بقلمي - وإن حسبته (مع بعض المحبين) أهلاً لهذا - عن جهد القارئ المجد.أو منها:
14- الإنصاف: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أمرنا رسول الله -ژ - أن ننزل الناس منازلهم) رواه أبو داود والبزار في مسنده. وقال الحاكم هو حديث صحيح.
اعلم بدءاً أن أكثر ما يُفرق بين الناس.. هذه السوءة: قلّة الإنصاف وهكذا علل الحكيم:
ولا تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال، ولو كانوا ذوي رحم
فهذا (البيت) - للمتنبي - يلمس أشياء كثيرة لدى الإنسان، بخاصة ذلك الذي يُعاني، إما إهمالاً من قبل من حوله، أو لدرجة بلغها بجدّه، فلم يجد من يُثمّن له جهده هذا - بخاصة ممن حوله -.
ولإن كان المثل يقول: (لا حُرمة لنبي في وطنه) فإن هذا آتٍ غالبه: من رواسب قد يصعب على مَن لم يلزم نفسه جادة الحق فيخلّصها من شوائبها.
.. بل الأشد وقعاً، ذلك الذي لا يحرّك راكده (عنك) مهما بذلت من أٍسباب لبلوغ الدرجات العُلى! لأن رأيه فيك - وهذا دليل يُقرّ به علم النفس الحديث -:
مُتكوّن (غالبه) من الأزل، فهو خليط من ضغينة أو حسد!، أو مبنيٌّ معظمه على: (مَن عرفك صغيراً حقرك كبيراً)! .. أو لإسقاطات سابقة.. لا يُطبق عليها.. قاعدة: (الصغيرُ يَكبرْ) - لا سناً فقط بل.. عطاءً وفهماً و.. إلخ.
ف: يصعب على من هذا قياسه إن لم يؤطر نفسه على الحق أطراً: التخلص.. منها! - بخاصة وكما أسلفت: مِمَا لها رواسبٌ مُتجذّرة! - .. بل هو تعبير ظاهري عن (حسدٍ) خفي!!
ألا فليهنئ الذين احترقت أوراق نجاحهم لدى محطّمي الأحلام، ومنكوسي الفطر والإرادات، وضعيفي النفوس، فيكفيهم.. أنها محفوظة عند من {لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، بل.. يؤطّرهم على التحمل، شهادة المولى: {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}(74) سورة التوبة.
وهنا تنبيه إلى أن الحسد: من (النوازع) السلبية في النفس - كالغيرة.. والطمع - لكنه يجب أن يوجه كما وجهها ديننا العظيم، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته بالحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يُعلّم منها..) متفق عليه. و.. لكن ما تُجيب.. على من نفسه (بغير جمال) إلا بقول الشاعر:
وذي رحمٍ قلّمت أظافر حقده |
بحلمي عليه، وهو غير ذي حلم! |
.. أو (العجيب) على من تشتكي شاكلة أولئك:
والذي قد أصابني من طبيبي! |
فالعاقلُ خصيمُ نفسه! .. ولا غرو - بعدها - أن يبلغ بأهل هذه (الدّنيّة) الخسارة، كما هو حال الوليد بن المغيرة.. بقوله للمصطفى - ژ -: (لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً).
أجل وربّي، فهذا الذي أرداهم - أي عُتادة الجاهلية - من علٍ، .. لا غرورهم فقط.. الذي جلبهم إلى أجلهم بالغزوة الكبرى.. (بدر).
.. وكم أحسن من وصفه - أي الحسد - بأنه (ظالم في ثوب ظلوم)!.. فبليّته: أنه خاصم القضاء، واتهم الباري، وشك في عدله، وطمس حكمته.. إلخ.. ف:
لِلهِ در (الحسد) ما أعدله
بدأ بصاحبه فقتله
15- المؤامرة: تواطأ.. - واتفق - بعض غير العارفين ببواطن الأمور، مِمن لا يُدركون الحقائق - بتوسّع - على نسب كل ما يأتيه من (خصمه) إلى: نظرية المؤامرة!
.. وهذه لعمري (حيلة) من حيل النفس، التي ترمي بها.. ذاتُ كلّ من لم يسطع على الأمر خُبرا!
وحتى إذا ما قلت عن حادثة تحوشك أنه (مؤامرة)، فلكأنك كبلت نفسك أو قدراتك في حبالٍ ثم أسلمت زمامها بيد عدوك يمتطيها لأي وجهة يولّيها بك! فكأن كل جهد - بحدها - تبذله خلفه هذا العدو ليأخذ بنتاج عملك ويسيّره وفق أمانيه فيك.
وهنا يحس أن قد أصيبت مطاعنه بمقتل، تفتّ عن أي مجهود يُبذل خلاف أماني عدوك!!
فإن المرء متى ما اتكأ.. أو علّق ب(ما يصيبه) أو يأتيه - أو حتى حاله وظروفه -.. على هذا (المشجب): سلّم لنفسه عُذراً: أن ليس هذا جريرة كسلها، أو تهاونها.. عن إدراك ما ينفعها (وتعجز)، عن ردّه! وقد نهينا في الحديث: (.. ولا تعجز، ولا تقل لو أني فعلت كذا.. لكان كذا)؛ إذ: الأصل أن الإنسان يأخذ الأمور والأحداث بمعطياتها.. حتى يتبين له خلاف هذا!، أو يظهر للمرء ما يبدو له من الأدلة غير الواقع. ثم: وليكن عدوك يتأمر عليك، فما الجديد أو المنتظر منه، أو علامَ العجب؟! ف: العجب - والأسوأ أن يتظاهر لك بالحب... ويتآمر عليك ب(السرّ)، فما الحل.. عندها إلا أن:
تتنبّه،.. ولا تضع بيضك في سلّة واحدة؛ أي لا تتكئ على صديق (واحد) بكل أحوالك، فيرديك!، إما بتآمره عليك، أو بسبب جهل (مَن أراد نفعك.. فضرك بحُمقه!)، ومن هنا أتت مقولة: عدوّ عاقل خيرٌ من صديق جاهل.
وليكن (تسليمك) آتياً: .. بعد فعل الأسباب، ثم - بعدها - إن لم تُصب اعتذرت ب: (قدّر الله وما شاء فعل)! فلا تُسلّم رقبتك لمن يجرّها خلف أمانيها فيك.. وهو عدوّك الحق؛ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}(268)سورة البقرة - أو.. على الأقل أهواؤه - و.. التي لا شك لن تكون حسب ما تشتهي سُفنك!
فإن الإنسان لا يُلام بعد بذل السبب، وإنما يلحقه العتب! متى ما آل بلومه - دون فعل الأسباب.. التي هي محل العقل الراشد -: سلفاً.. وقبل (الدفع) الذي غالباً يحمي - بإذن الله - من وقوع المحذور.
ولعل هذا مكمن ما قرره (أسلافنا) العظام.. في الفرق بين: التوكّل والتواكل؛ فالأول مبنيٌّ على تقديم السبب، ثم التقبّل - بإيمان -.. ما ينتهي له (النتاج)،
والآخر.. مبنيٌّ مباشرة..: على استقبال النتاج!.. دون حِراك - والأكيد: إذا لم تجتهد لن تنجح! قال (كوكتن): العظيم: لا ينتهز الفرصة، بل يوجدها.
وعلى (صاحبه) سلفاً: تجهيز العذر، أو ربطه - مع الأسف -: بالقدر!!
حال.. من قال بمسألة (التسيير) - وغفل عن حيّز التخيير!
- وانظر للنقطة (3) -
ومثل هذا.. في الفرق بين (القضاء والقدر) - الركن السادس من أركان الإيمان -؛ فالقضاء ما انصرم فعله - ماذا عملت بالأمس، أو ماذا جرى لك؟ -، والقدر: ما هو مستقبل؛ فقد تمنع نفسك من الخروج من المنزل إذا ما علمت عن أمطار غزيرة قادمة، لكنك لن تدفع أذيّة قد قدّرها الله عليك من جرّاء هذا.. وذلك بالاتقاء من الأسباب، وهذا شيء قد يغفله من لا يعون حقيقة (فهم) الدين.. في بذل الأسباب مع صدق التوكّل -.. ومن الأسباب أيضاً: كما صحّ في حديث: (لا يردّ القضاء إلا الدعاء).
16- المشي.. قبل الأكل: أو إتماماً للنقطة السابقة.. وتوضيحاً لعنوان هذه النقطة: قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ}(15)سورة الملك، فإن ذا العقل الواعي يدرك أن فعل السبب (امشوا) يؤول - بصاحبه - إلى (الأكل)، وإلا لو قعد.. ف: (إن السماء لن تُمطر ذهباً) كما قال الفاروق - رضي الله عنه -. وهذا هو الفقه الحقيقي لمعنى (التوكّل)، فحين أرعدت السماء، التجأ عمر - رضي الله عنه - إلى ظل الشجرة، فقيل له: أتفرّ من قدر الله؟ قال: (نفرّ من قدر الله إلى قدر الله)؛ أي: أليس ظل الشجرة واقعاً تحت قُدرته ومشيئته، وهذا ليس خوفاً منه.. بقدر.. ما هو (درس) منه.. (يُعلّم من حوله كيفية بذل الأسباب لدرء الأذى عن النفس).
و.. لمعنى قول تعالى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ}(11) سورة الرعد، وهذا الفهم الحقيقي ل(التوكّل).. أي وبعد بذل السبب - الذي لا ينافي الإيمان - مما.. قد يحول عن وقوع المرء في المكروه، كما في حديث: (لا تتمنّوا لقاء العدو).
ومن هذا (المعنى) الجليل قال ابن تيمية - رحمه الله -: (ترك السبب قدح بالعقل، وترك التوكّل قدح في المعتقد).. فأيهما أنت تاركٌ لتقدح.. أو يوصم بك (نتاج) ما تركته؟!
وفي سنن الترمذي بسند ضعيف أن رجلاً قال: يا رسول الله! أأعقل ناقتي أو أتوكّل؟، فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكّل). وهنا ملحظٌ (عقديٌّ وتربوي، نبّه إليه ابن القيم: (الأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكّل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قِد العبودية) - مدارج السالكين 2-125، ثم هناك - كما.. قال (د. صالح اللحيدان) - تعليقاً على إعصار (تسونامي): (من لا يُفرّق بين العلة والسبب! فالسبب ما يُدرك (مادياً) حسب دراسات علمية جولوجية {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} (30) سورة النجم، أما العلة: فهي نذير عذاب وعلامة من علامات الساعة، كما جاء في الصحيح).
17- الوقت: هناك مثل شائع: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)؛ أي: قطع عمرك كلّه.. بلا نتاج.. ولا ثمن أيضاً - مُقابل ذلك!
قال الحسن البصري - رحمه الله -: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشحُّ على عمره منه على درهمه). ولعل منهم علامة الشّام (جمال الدين القاسمي) - رحمه الله - الذي كان يقول مُخاطباً من يقعدون على المقاهي إمضاء للوقت..، أو تسلياً -: (آهٍ يا ليت الأوقات تُشتري، فأشتري أوقاتكم منكم)، قال ابن هبيرة:
و(الوقت) أنفسُ ما عنيتُ بحفظه |
وأذكر لطيفة - توازي هذا - لا تغيب عن ذاكرتي، أن ابن تيمية - رحمه الله - كان إذا دخل الخلاء، قال لأحد تلاميذه: (اقرأ وارفع صوتك).. فهل (بعد هذا).. إدراكنا: بالفعل أنه غالٍ - أو (عمرنا).. كما نعلم! - ويمكن أن يكون الجواب ب(لا)، و(نعم)! فتجده (لا) عند أولئك الذين يصرفونه في غير منفعة دينية - أو حتى دنيوية! - إما على تسالي الإنترنت أو المقاهي.. أو حتى أمام شاشة التلفاز -.. بخاصة ممن يُقلّب فيقلب عقله.. (وربام تربيته): بين القنوات التي كأنها فعلاً: (بحلت) بهذا الوقت (الطويل) بخاصة.. من ألزمت نفسها (البثّ) طوال ال24 ساعة!.. حتى أصبحت إزاء هذا: تُقدّم أيّ شيء (صالحاً كان.. أم طالحاً) بخاصة عندما يقل حماس الرقيب. هذه حالٌ، أما الحال الأخرى (لهذه الشاكلة):
فتجد أحدهم - وهذا مشاهدٌ كثيراً -: عند البقال/ يقف أحدهم ب(مركبته) كيفما اتُّفق، ليبتاع غرضه على عجل، دون مراعاة لحقوق الغير، أو حتى وعياً لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وكأنه بفعله - هذا - ، يُومئ للآخرين أن وقته غالٍ عليه، وأنه لا يجد فيه متسعا ليبحث عن موقف ملائم لسيارته!!
لكن الاستقراء الحقيقي - لهذا الصنيع - هو: العجلة.. في غير محلها. وقد قال صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبدالقيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)، أي التأني، والترفق وقضاء الأمر - أو الغرض - بتريّثٍ وترتيب.. بلا فوضى أو عجلة لا تفي.. أو تُنهي الأمر كما يُحب صاحبه أن يؤول إليه.
والعجيب أن هذه الفئة - صاحبة.. أن (لا) ثمن للوقت لديها - تجده لديهم غاليا في غير مكان حفظه، كما تقدم.
وهذا من انتكاسة التربية، أو حيث تُثمر غير جني.. زارعها!..
أما أولئك - ذوو الجواب (نعم):
فهو بالفعل لديهم كذلك - وهم (للأسف) قلّة بعصرنا - كما حمد المولى في آخر - الزمن {وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } (14)سورة الواقعة، فهم: ممن سهروا الليالي، طلبا للعلا والرقي علما ومعرفة.. لبلوغ مقامات الذُّرى.
مما لا يحتاج في بسطه، وقد بلغ ذوي الأفهام الإربة من حالهم وأحوالهم.. وحسن صنيعهم.
albayan62@yahoo.com |