| شرفات
ماذا يفعل الأديب عندما يهرب منه المعنى وتراوغه الأفكار التي يود الكتابة عنها، هل يستطيع إجبار قلمه على التعبير عنها بالقوة أم ينتظر حتى تأتي له الأفكار طيعة تملأ وجدانه فيجد قلمه ينساب بسهولة على الورق؟ وحتى يأتي هذا الوقت الذي لا يعلم المبدع مداه يظل في حالة الانتظار والحلم بكتابة هذه الأفكار التي تراوغه باستمرار او إكمال عمل لم يتم منذ سنوات.
في محاولة للاجابة على هذه التساؤلات رصدنا الأحلام الإبداعية المؤجلة او الكتابات المهجورة منذ سنوات ولم يتح لمبدعيها إكمالها حتى الآن.
أحلام,, أحلام
يقول الأديب الكبير محمد البساطي: لدي عدة قصص قصيرة بدأت في كتابتها منذ أربع سنوات ولكن لم أكملها حتى الآن لأنني لم اعثر بعد على خيط التواصل معها، ولم أجد حماسا كافياً لاكمالها بالاضافة الى رواية مهجورة منذ 10 سنوات، كتبت منها أجزاء كثيرة ولم استطع اكمالها، كما توجد رواية أخرى كتبت نهايتها وما زالت مفتوحة بمعنى انني كتبت جزءا منها وشعرت أنه يصلح للنهاية وليس البداية، وبدأت الكتابة وفق هذا الاحساس وكتبت بالفعل الفصل الأول غير انني لم استطع اضافة شيء إليها حتى الآن منذ خمس سنوات.
ويضيف البساطي أحلم ان أتم هذه الأعمال المؤجلة قبل انطفاء شعلة الإبداع والانفعال بها ولذا أسعى لقراءتها دوما من أجل استعادة الإحساس بها ومازلت في انتظار هذا التواصل الإبداعي معها, وأتمنى أن يحدث قبل أن ينتهي سني الإبداعي.
وعن وجود عمر او سن معينة للإبداع يقول البساطي,, هذا ما أعتقد به فالأديب عندما يتقدم به العمر تصاب ذاكرته بالوهن والضعف وتضيع منه العديد من الأفكار بفعل النسيان,ومن ناحيته يقول الأديب سعيد الكفراوي: حلمي الوحيد في مجال الإبداع الذي أسعى لتحقيقه هو الكتابة عن الموت فهذا هو الهاجس الذي يلح على قلمي باستمرار منذ ما يزيد على عشر سنوات وكلما حاولت الاقتراب من تحقيق هذا الحلم وأبدأ في الكتابة لا استطيع إلا كتابة صفحة او صفحتين على أكثر تقدير ولا استطيع التواصل بعدها، وقد تفجر الحلم بداخلي عندما قدمت مجموعتي القصصية مدينة الموت الجميل ومنذ ذلك الوقت وأنا أحلم عن ذلك الموت الابدي الذي شيد له المصريون تلك المقابر الشامخة لتحفظ بداخلها الحياة وأقاموا طقوسا له.
ويضيف الكفراوي رغم ان جل كتاباتي تدور داخل القرية المصرية وتناول طقوسها وحياة أهلها إلا انني عبرت في خضم ذلك عن لحظات الموت ولكن هذا لا يشفي غليلي الإبداعي فأنا أريد كتابة خاصة عن الموت، وربما هذا الإصرار يعود بي الى طفولتي التي قضيتها هناك في قريتي حيث قرأت وأنا صغير مجموعة من القصص كانت منزوعة الغلاف وكانت تتحدث عن الموت، وعذبتني تلك القصص بإحساسها الإنساني المروع وتصويرها لتلك اللحظات المهيبة الجليلة، وربما ترسب في اعماقي منذ هذا الوقت الكتابة عن الموت فهذا هو حلمي الإبداعي المؤجل.
التواصل الحميم
الأديب الكبير خيري شلبي ظل يحلم طوال خمس السنوات الماضية بإكمال روايته صهاريج اللؤلؤ التي اتمها منذ شهور قليلة يقول: ظلت هذه الرواية أحد أحلامي المؤجلة أحاول كتابتها باستمرار لكني لم أستطع التواصل معها إلا بطريقة متقطعة وغير منتظمة، وهذا يحدث أحيانا للعديد من الأدباء الذين تشغلهم أفكار كثيرة فقد يتواصلون مع بعضها تواصلا حميما ومستمرا حتى يستطيعوا الكتابة والتعبير عنها في فترة قصيرة، لكن تظل هناك أفكار تستعصي على التواصل وتحتاج من الأديب لأن يتركها في شأنها حتى يعود هذا التواصل الحميم بينه وبينها فيكتبها أو يتم ما بدأه منها.
ويضيف خيري شلبي: لا يوجد لدي حاليا روايات او قصص مؤجلة غير انني أحلم بكتابة عمل ضخم عن سيرتي الذاتية وتجاربي الحياتية، وأحاول باستمرار التفرغ لهذا العمل وانهاءه في أقرب وقت، وعلى ذكر الأحلام الإبداعية أقول انها تأتي حسب التكيف الاجتماعي للأديب والعلاقة بينه وبين المجتمع، والأديب لا يكتب بعقله فقط بل هناك الشعور واختمار الفكرة في الذهن والإحساس بها تلح عليه لكتابتها وإخراجها على الورق.
من ناحية اخرى يقول الشاعر رفعت سلام لدي أحلام إبداعية كثيرة غير انه يوجد حلم واحد أجدني مشدودا إليه باستمرار وهو كتابة مجلد شعري ضخم عن مدينة الاسكندرية, كما فعل الشاعر اليوناني تفافيس هذا الشاعر الذي اعجبت به كثيرا ولكن أود الكتابة من داخل شعوري ووجداني كمصري، وكلما حاولت البدء في تحقيق هذا الحلم تتكشف أمامي أفكار أخرى وتلح في الخروج على الورق على هيئة قصائد متفرقة وهذا ما يذكرني بفترة كتابتي لديواني الأول وردة الفوضى الجميلة فكانت قصائد الديوان تسيطر على افكاري ووجداني وكنت أعمل جاهدا لإفرازها على الورق وأثناء ذلك خطرت لي فكرة ديواني إنها تومىء لي، فتركت وردة الفوضى الجميلة وبدأت الكتابة في قصائد الديوان الجديد، وبعد فترة حدث ان عادت الأمور الى طبيعتها الأولى واستطعت إنهاء ديواني وردة الفوضى الجميلة وقد تواكب ذلك في الفترة التي كان يترأس فيها الشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور الهيئة العامة للكتاب حيث اجاز نشر الديوان ولكنه توفي قبل النشر الفعلي وتأخر نشر الديوان فاضطررت الى تغيير بعض القصائد فيه، وأقصد من سرد هذا القول بأن الأحلام الإبداعية لا توقيت لها يستطيع ان يحدده الأديب كما ان تحقيقها لا توقيت له أيضا.
طموحات لا تنتهي
ويتفق الأديب يوسف ابو رية مع الرأي القائل أن أحلام المبدعين كثيرة وما يتحقق منها قليل، ويضيف إنني أحلم بكتابة كل تجربة تمر في حياتي، وأن أكتب كل ما رأيت وكل ما عرفت وكل قصة لي كتبتها هي محاولة للاقتراب من تحقيق هذا الحلم,أما على صعيد الأحلام التي حاولت الاقتراب منها وكتابتها ولكن لم تكتمل بعد فتوجد تجربة حرب الخليج الثانية التي عايشتها عن قرب حيث تواجدت في تلك الفترة في المملكة العربية السعودية فأنا أريد كتابة هذه التجربة وصياغتها في عمل روائي، أيضا لدي حلم آخر وهو الكتابة عن الجنون وبالفعل بدأت في تحقيق هذا الحلم بكتابة أكثر من 10 نصوص حول مجانين الشوارع الذين اسميهم فلاسفة الشوارع، وكلما حاولت إنهاء هذا الكتاب سيطرت على وجداني أفكار أخرى، وهكذا الحال مع كتاب الجنون منذ أكثر من ثلاث سنوات وأحلم بإكماله.
ويعلق الناقد الأدبي الدكتور مدحت الجيار على الأحلام الإبداعية المؤجلة لدى المبدعين بقوله أن الأديب والمبدع الحقيقي يعيش دوما على الطموح الإبداعي ويريد تحويل كل ما يراه وما يشعر به الى أعمال روائية ولكن قد يحدث ان يبدأ الأديب في الكتابة ثم ينقطع خيط التواصل مع ما يكتبه فيتركه في حاله حتى يستعيد تلك الحالة التي بدأ بها ويستعيد شعوره مع كتابته وأؤكد هنا أن استعادة الحالة الوجدانية من أصعب الأمور التي يواجهها الأديب والكاتب لأن هناك ما يسمى بالوحدة في العمل الإبداعي سواء كان رواية أو قصة وهذا يمثل تحدياً للكاتب واستفزازا له لمواصلة الإبداع، ويظل الأديب يعيش على أمل تحقيق كل أحلامه وطموحاته الإبداعية وإكمال الأعمال التي هجرها لفترة واستعادة خيط التواصل الحميم معها، وحتى يأتي هذا الوقت لا يتوقف الأديب فانشغالاته مستمرة ووجدانه زاخر بالأفكار وما عليه عندما تأتيه الحالة الشعورية إلا ان يستجيب لها ويترك قلمه ينساب على الورق ليخرج لنا إبداعا جيدا جديرا بالقراءة والاهتمام.
|
|
|
|
|