| عزيزتـي الجزيرة
الحمد لله الذي جعل الموت راحة للابرار يستريحون به من أذى الدنيا ونصبها الى رحمة الله تعالى وينتقلون من دار المقام القليل الزائل الى دار الأفراح الدائمة والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد رحلت عن هذه الدنيا والدتي رحمها الله وكانت امرأة خاضعة لله تحب الله ورسوله وتعمل بطاعة الله جعلت همها التزود للآخرة فتأهبت للرحيل من هذه الدنيا وقد حزنت عليها حزنا شديدا واحمد الله على نعمة الإيمان والرضا بالقضاء والقدر ومنه المثوبة وعظيم الأجر على الصبر وإن ما يطمئن النفس ويسليها هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأجر والثواب للمسلم على ما يصيبه في الدنيا ففي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يصيب المسلم من نصب ولاهم ولاحزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه واللفظ للبخاري.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قال النووي رحمه الله ,, في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وان قلت مشقتها وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات .
ولأن الثناء على الميت مشروع وجائز لما ثبت في الحديث المتفق على صحته عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت، ثم مروا بأخرى فاثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجبت؟ قال: هذا اثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا اثنيتم عليه شرا فوجبت له النار وانتم شهداء الله في ارضه واللفظ للبخاري.
قال الإمام النووي ان كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه كان ذلك دليلا على انه من أهل الجنة والحديث على عمومه واطلاقه وهو الصحيح المختار .
ولما من الله به على والدتي من نعم لا تعد ولا تحصى احببت أن اعرض لشيء منها ليترحم عليها وليحصل الحث على الاقتداء بمحاسن عملها:
1 كانت رحمها الله مؤمنة بالله مقبلة على الطاعة عاملة عمل من يرجو رحمة الله التي وسعت كل شيء تكثر من النوافل من صلاة وصيام,, وكانت مداومة على ذكر الله وتلاوة القرآن والتفكر في معانيه وتعمل بما جاء فيه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت رحمها الله مداومة على الاستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ولله الحمد والمنة وكانت في حياتها رحمها الله لا تحب ان يعد أحد محاسن اعمالها وذلك من شدة اخلاصها وتقربها الى الله تعالى.
2 مات لها رحمها الله خمسة أولاد وهم لم يبلغوا سن التكليف ثلاثة بنين وبنتان فصبرت راضية بقضاء الله راجية فضله وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي اخرجه البخاري عندما وعظ النبي صلى الله عليه وسلم النساء فكان فيما قال لهن ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنين؟ فقال: واثنين ففي هذا الحديث ان من مات له ولدان حجباه عن النار بفضل الله ورحمته.
واخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث الا ادخله الله الجنة بفضل الله ورحمته اياهم .
واخرج مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه قال اتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت: يانبي الله ادع الله له فلقد دفنت ثلاثة قال دفنت ثلاثة؟ قالت: نعم قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار وفي لفظ آخر عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاءت امرأة الى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها يشكي واني اخاف عليه وقد دفنت ثلاثة قال لقد احتظرت بحظار شديد من النار .
قال النووي أي امتنعت بمانع وثيق واصل الحظر المنع واصل الحظار بكسر الحاء وفتحها ما يجعل حول البساتين وغيره من قضبان وغيرها كالحائط وفي هذه الأحاديث دليل على كون أولاد المسلمين في الجنة,, .
3 رضيت بقضاء الله وقدره وصبرت على الأمراض التي اشتدت بها وعلى نقص صحتها وضعف سمعها,.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سبق ذكره ان المرض كفارة لبعض الذنوب قال ابن حجر رحمه الله وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن لان الآدمي لا ينفك غالبا من ألم بسبب مرض أو هم او نحو ذلك مما ذكر وان الامراض والأوجاع والآلام بدنية كانت او قلبية تكفر بذنوب من تقع له .
4 كانت رحمها الله تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالرفق واللين وكان من أساليبها في الدعوة التذكير بنعمة الله تعالى وبيان ان العمر قصير والطاعات والفضائل كثيرة وان على الإنسان ان يجعل كل وقته في طاعة الله سبحانه وتعالى وان يعلم ان ما يكابده في الدنيا يقابله الجزاء الحسن في الآخرة اقول يشهد لهذا ما أخرجه مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .
قال النووي رحمه الله معناه ان كل مؤمن مسجون في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة فإذا مات استراح من هذا وانقلب الى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان وأما الكافر فانما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات فإذا مات صار الى العذاب الدائم وشقاء الأبد .
5 اعتنت رحمها الله بتربية وتعليم اولادها فأدبتهم الأدب الحسن وعلمتهم ما يحتاجونه من أمور الدين والدنيا وحرصت على العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه ودنياه في عباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب من القيام بامره واجتناب نواهيه واذكر في هذا المقام:
أ انها كانت تطلب مني وأنا في السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية ان أقرأ عليها كتاب رياض الصالحين وكانت تكافئني عن كل عشر صفحات بمكافأة وتجمعها الى ان أكمل خمسين صفحة فتسلم لي هذه المكافأة.
ب كانت رحمها الله توصيني بالاستعداد للموت واستغلال الشباب والصحة والفراغ في فعل الطاعات والبعد عن المعاصي وكانت تقول لي يابني كد نفسك في طاعة الله ما دمت شابا فسيأتي وقت تتمنى فيه الذهاب الى المسجد ولا تستطيع وتتمنى الصلاة قائما ولا تستطيع وقد يأتي وقت تتمنى فيه ان تكبر تكبيرة أو تهلل تهليلة او تسبح تسبيحة ولا تستطيع .
ج كانت رحمها الله توصيني بقولها لا تكره نفسك على شيء إلا على طاعة الله، اقول وهذه الوصية لها أصل في الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه على صحته انه قال حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات واللفظ لمسلم.
قال النووي رحمه الله قال العلماء هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي اوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن ومعناه لا يوصل الى الجنة إلا بارتكاب المكاره والنار بالشهوات وكذلك هما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل الى المحجوب فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات.
فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والاحسان الى المسيء والصبر عن الشهوات ونحو ذلك.
واما الشهوات التي النار محفوفة بها فالظاهر انها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا,, .
وقال ابن حجر المراد بالمكاره هنا ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً كالاتيان بالعبادات على وجهها والمحافظة عليها واجتناب المنهيات قولا وفعلا واطلق عليها المكاره لمشقتها على العمل وصعوبتها عليه.
والمراد بالشهوات ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه اما بالاصالة وأما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات .
د كانت آخر وصاياها وهي في غرفة العناية المركزة بالمستشفى هي الأمر بالطاعة والصلاة وبر الوالد بارك الله في عمره وصلة الرحم كما طلبت رحمها الله إن اخرجنا لها ثلثا من تركتها ان يكون في سقي الماء.
6 كنا نشاهد طرف لسانها قبل وفاتها يتحرك بالنطق بلا إله إلا الله مع انها كانت في غيبوبة وهذا من فضل الله ورحمته بها.
7 توفاها الله تعالى ليلة الجمعة وقد اخرج الإمام احمد بسنده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يموت يوم الجمعة او ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر .
هذا وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في الحديث الذي أخرجه الإمام احمد بسنده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان ارواح المؤمنين في اجواف طير خضر تعلق من شجر الجنة وبهذا نعلم ان رحيل المسلم من الدنيا رحيل الى الراحة رحيل الى دار القرار بفضل الله ورحمته.
اللهم تغمد والدتي بفضلك ورحمتك واكتبها عندك من المحسنات وأفسح لها في قبرها ونور لها فيه واجعل كتابها في عليين واجمعنا بها في الفردوس الأعلى من الجنة وارحمها كما ربتني صغيرا اللهم لا تحرمنا أجرها ولا تفتنا بعدها واغفر لنا ولها ولوالديها ومن يعز عليها وجميع موتى المسلمين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د, ابراهيم بن عبدالرحمن الجهيمان
|
|
|
|
|