| منوعـات
كان يلقب بجنجا، لقب غريب أليس كذلك؟ بيد أنه لم يكن غريبا في الأيام القديمة، اسمه الحقيقي واحد من تلك الاسماء السائدة (عبدالله، ناصر، محمد، فهد، دحيم) الخ، والتي تكاد تخرج من السجلات الحديثة لتحل محلها الاسماء الجديدة اللامعة، لكنك لو ناديت قبل ثلاثين عاما بأعلى صوتك (ياجنجا يا جنجا) في اي من حارات الرياض القديمة، ابتداء من طلعة الشميسي حتى حي غبيرة، لتناتق عليك عشرات الاطفال يلبون النداء, وجنجا لم يكن الاسم الغريب الوحيد في ذلك الزمان فهناك عشرات الاسماء الغريبة المنتشرة بين الاطفال واليافعين من عيال الرياض مثل (الكوش، بوشكاكش، الكتالوج، دورو الخ) أعرف ما يكفي عن هذه الاسماء ويمكن ان اعطيك سردا تفصيليا عن اصحابها، ولكنني لا اعرف عن جنجا الكثير,, سمعته يتردد مرارا في الايام القديمة ويحمله اكثر من طفل واتذكر بشكل غائم ومشوش انه اسم للاعب كورة في نادي الاتحاد بجدة، وقد ارتبط هذا الاسم باسم آخر هو (جربان) كنا نسمع ان افضل لاعبين في العالم هما (جنجا وجربان).
كانت المجر والبرازيل ومصر وجدة شيئا واحدا بالنسبة لنا, لم نكن نعرف حينها ان جدة جزء من بلدنا ومصر جزء من امتنا والبقية جزء من العالم، كان كل شيء يتداخل في كل شيء ولا يبقى من العالم سوى حارات الرياض، فكل شيء عدا هذا كان أجنبيا, فالعالم يبدأ من طلعة الشميسي وينتهي عند مقبرة العود، قد يتلكأ قليلا هنا او هناك، فيلتفت على دخنة او الشرقية او القري او حلة القصمان ولكنه يعود فيستقيم شرقا ليسقط في مقبرة العود, بعضهم يتمطى ويتباطأ ويأخذ من العمر ما يكفيه ويزيد, والبعض الآخر يسارع ليعبر الرياض كلها في عز شبابه كما حدث لجنجا الذي مات وهو على مشارف العشرين من العمر, شيء محزن ان يموت الإنسان في مطلع ايامه، أليس كذلك؟ ولكن الحياة عبارة عن ملفات تفتح وملفات تغلق, فالأمر ليس بأيدينا، لاننا جئنا للحياة بدون اختيارنا وسنرحل عنها ايضا بدون اختيارنا.
كان عالمنا في الرياض القديمة ممتلئا بنفسه يكاد ينأى عن العالم بانغلاقه, ولكن من يهتم؟ لأنك اذا عرفت العالم الآخر ستعيش فيه، وإذا لم تعرفه ستعيش بدونه، وفي كلتا الحالتين ستسنفد حقك من العيش, وعندما ينتهي دورك الذي قدر لك سيأتي من يغلق ملفك,, واعتقد ان موت جنجا المبكر مصداق لما أقوله لأن جنجا انتهى دوره الحقيقي في الحياة بعد المباراة الحاسمة التي اقيمت بين فريقي نمور العسيلة وأشبال حوطة خالد,, لم تكن تلك الهزيمة هي نهاية لجنجا وحده وإنما كانت انهيارا لواحدة من أهم حارات الرياض القديمة العسيلة.
تقع العسيلة بين شارع الشميسي القديم وشارع الشميسي الجديد على انقاض نخل كان يعرف بالبويبية, ورغم انها محصورة في منطقة صغيرة جدا إلا أن نفوذها كان يصل ام سليم والقرنين والحارات المتصالحة الصغيرة الاخرى كالبازمي والداخلة، ويكاد نفوذها ان يمتد حتى يصل العجلية شمالا ويلامس السكيك الواقعة بين شارعي العطايف والسويلم, ويمكن ان نفسر هذا النفوذ بشيئين الأول موقعها الجغرافي بين حارات الرياض والثاني استحواذها على مجلب البقر (بورصة الماشية آنذاك) كما ان لها سطوة عاتية إبان الحروب الطاحنة التي كانت تندلع في رمضان بين حارات الرياض, حيث اخضعت على مدى سنوات حارتين من أعتى الحارات آنذاك وهما الشرقية والقرينين.
بعد النهاية المأساوية للمباراة الكبرى التي جرت بين نمور العسيلة وبين اشبال حوطة خالد لم أسمع بجنجا إلا بعد سنة أو سنتين عندما بلغني خبر موته.
لكن من هو جنجا هذا حتى يقفز من بين انقاض السنين الطويلة المنصرمة ويجلس تحت مصباح التاريخ ويمثل بموته المحزن موت نظام العلاقات الذي كان سائدا بين حارات الرياض القديمة؟
هذا ما ستراه يوم الاثنين القادم عندما تقف في نفس الزاوية التي تقف فيها يارا وهي تطل على تاريخ الذين لا تاريخ لهم.
لمراسلة الكاتب
Yara4me@ yahoo.com
|
|
|
|
|