| مقـالات
منذ أن تعرفت على معالي الأخ الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري في عام 1380ه، عندما زار الجامعة مع أحد أصدقائه اللبنانيين، وأنا أجد متعة في الجلوس معه، والاستماع لأحاديثه، لأنه يغرف، بجدارة، من معين لا ينضب من التراث، معين زلال، يضفي عليه روحا تجعل كل جزء في الصورة التي يتحدث عنها تنبض بالحياة, والتراث،والحديث عنه، يشدني، فما بالك إذا كان من شخص عاش هذا التراث، أو عاصر من عاشه.
هذا قبل أن يبدأ الكتابة، حتى إذا بدأها كشف عن جوانب لم تكن معروفة، تمثل جيلاً من متعلمي نجد، ممن لم يحصلوا على شهادات، ولكن بعضهم أعطى الشهادات الأولى لمن أصبحوا يحملون أعلى الشهادات, والشيخ عبدالعزيز لم يقع ضحية عقدة الشهادة، ولم يرهبه عدم توفرها فيه، فهو، وعدد غير قليل من معاصريه، رضعوا لبان الثقافة من ثدي طبيعي، في بيئة طبيعية، ذهبوا الى المتنبي في عقر داره، وإلى المعري فجلسوا معه على عتبة داره، وجالسوا ابن المقفع، وأخذوا يسيرون في الأحياء، في مكة، والمدينة، وبغداد، ودمشق، في أوج مجد هذه المدن، يطرقون باب هذا الشاعر، أو الأديب، أو المؤرخ، ويجلسون على موائدهم، فلايبقون في الأواني شيئاً مما لذ طعمه، وطاب أكله، حتى طفحت عافية العلم والأدب قانية على أوداجهم، وما إنتاج الشيخ عبدالعزيز التويجري إلا طفح ما امتلأ به إناؤه، جاء كلمة، وأسلوبا، وعبارة، لما أراد أن يعرضه من أفكار أخذت تدق جدار صدره لتخرج، شاكية طول مدة العضل، وسلاسل السجن، فسمح لبعضها أن تتنسم الحرية، متدافعة كما يراها القارىء في كثير، وآخرها كتابه: ذكريات وأحاسيس نامت على عضد الزمن ترى هل كل حامل شهادة عليا سوف يدرك مرامي الأفكار التي جاءت في هذا الكتاب، أو سيغيب عليه كثير مما فيها كما غاب عليه ما في قبلها.
***
إن هذا الكتاب له حق كبير في الفهم بعد القراءة المتأنية، والكتابة عنه يجب أن تكون مفصلة بابا بابا، لإظهار بعض مايكشف عن المؤلف وفكره ونظرته لجوانب الحياة، وهو لايمثل صورة فرد، ولكنه صورة لجيل الشيخ عبدالعزيز، الذي مر بما مر به، وعاش معيشة مماثلة، إنه صورة لحقبة من حقب سيرنا في هذا العصر، صورة الكفاح، وصورة الصبر، وصورة غلاء قيمة الوقت، وصورة محاولة إنارة الفكر في مزعاة من الزمن، تختلس للأدب، وتوسعة الفكر، وإشباع الذهن، بما يخفف عناء الجسد.
حتى العنوان لم يخل من عرض فكر الشيخ عبدالعزيز الذي ساد أسلوبه، فالأحاسيس والذكريات لها جسم متكامل ولهذا تعبت فنامت كما ينام الانسان على عضد الزمن، منظر حنان وعطف لا يأتي إلا من إنسان مع إنسان، صِيغٌ من البيان أغرم بها أبو عبدالمحسن، وويل لغير المتأني، فإنه سوف لا يخرج بشيء إلا إذا لبس رداء الغوص، وتأنّى ولهث حتى يحيط ببعض صور البيان المتتابعة العميقة، وهو أسلوب لا يستطيعه إلا من كان ذا باع طويل في قراءة الأدب، والبيان والبديع، وأسلوب فقدناه إلا عند قليلين ممن ثبتوا عند تراثهم الأدبي والفكري، ولم ينظروا منه الى ما هو أسهل قضما حتى يتناسب مع أسنان في فم ليس فيه أضراس لطحن الصلب من المعاني.
(يتبع)
|
|
|
|
|