هناك طابور من القيم، والمُثُل، والعادات، والأعراف، التي تلتحم بنسيج المجتمع، ولا يكاد يخرج عن أطرها الإنسان، وهو إن فعل تعرَّض للَّوم، والنَّبذ،,.
ولم يكن يستطيع إنسان أن يفعل ذلك؛ حرصاً على ترابط المجتمع، وحماية نسيجه، حتى تداخلت الأمم، واتصل الناس، وقرُبت المسافات، واصطدمت الخطوات في تزاحم المناكب والأقدام,,!,, وكما تداخلت اللهجات، تداخلت العادات، وكما ذابت الأعراف، ذابت كثير من القيم، وأصبحت القيم مرتبطة كالمبادئ بحالة التغيُّر على الرغم من أنها كان لابدّ ألّا تُمسّ ولا تتبدَّل,.
وأول المتغيّرات التي ترتبط بترابط الأفراد العلاقات الجيرانيّة، وامتدت إلى العلاقات الأسريّة البعيدة فالأقرب، حتى وصلت إلى العلاقات داخل البيت الواحد ذي الحجرات المحدودة, هذا الموضوع يبدو أنه أصبح ملحّاً حدَّ أن يطرح في وسائل الإعلام في أيام متتالية على اختلاف نوعية الوسيلة وموقعها وهويّتها.
فمجلة اليمامة ، ومجلة كلُّ الناس وإذاعة الرياض ، خلال ثلاثة أيام متتالية ناقشت قضية العلاقات العائلية بوصفها ترتبط بالقيم العلائقيّة العليا، فهي لا ترتبط فقط بمفهوم المُثُل العليا، ولا الأعراف شديدة الواجبيّة في الأداء، ولا بالشكليَّة التعامليَّة في السلوك الخاص أو العام قدر ما ترتبط في كلِّ هذا بالكيان الأخلاقي الذي هو منطلق بل مرتكز حركة السلوك الذي يَنُمُّ عن مؤشرات قيميَّة عالية الصّفات، لا يتنازل عنها الفرد، وعلى وجه الخصوص المسلم؛ لأنها تنبثق من أخلاقيات السلوك الفردي/ الجمعي الإسلامي.
من هنا أخذت هذه العلائق قيمة القيم، وشكل المُثُل، وصفة العُرف، وسبيل العادة، ومثَّلت المبادئ العامة والخاصة، وعند التفريط فيها تحتاج إلى علاقات بدائليّة توافقيَّة كي لا يتنصَّل واحد، أو جماعة، من أدائها في شكلها السلوكي المتعارف عليه.
لكن يبدو أن دَولَبَة الحياة وسحقها اليومي لأهداف الإنسان بعيداً عن الجماعة لصيقاً بالذاتية ذوَّب في الماديّة كلَّ ما يستقرُّ في صدر هذا الإنسان من نبضِ هذا الإنسان أيضاً بالإحساس فيه بالعلاقات التي قام عليها ترابط المجتمع فيما سبق وكانت هذه العلاقات صورة مثاليَّة تُميِّز المجتمع؛ لأنها البوتقة التي كانت تنصهر فيها صور هذه العلاقات في أدائها,, هذا الأداء الذي التزم به الفرد بمثل ما التزم به الاثنان فالأكثر، فالجماعة الكبرى,,، وصُبغت عادات الشعوب في أوجه لصيقة بعادات الأسر في مجتمعها الواحد، والأكثر,,، وبمثل ما تقوم به الأزياء الوطنيّة من إعطاء صورة الوحدة المظهريَّة أي المؤشر إلى هويّة المجتمع، بمثل ما تعطي العلائق المجتمعيّة الصغيرة والكبيرة، والضيّقة والواسعة، من مؤشرات إلى هويّة المجتمع.
لكن,.
تبدَّلت الأحوال,.
وتغيَّرت أنسجة المجتمعات,.
وفُقدت العلاقات، وذابت الروابط، وتفكَّك التلاحم، ونُوشدت الاستقلاليّة الفرديّة على أنها من السِّمات المميِّزة للمجتمعات الحديثة وللأفراد فيها، ووُزنت قيمة الفرد بمدى استقلاليّته، بل قِيست حضارة المجتمع بحجم هذه الاستقلاليّة,, ومن ثمَّ: أنكر الناس بعضهم بعضاً,,، ونسي القريبُ قريبَه، والجارُ جارَه، والصحبةُ تحوَّلت إلى النَّفعيَّة في صورها الآنيَّة،,, وعندما ترهَّل النسيج الاجتماعي، وجمُدت العواطف التي كانت تحرِّك مغزل السلوك في هذا الأمر,, وأجدبت الصدور تحبَّرت السطور،واعتلت مؤشرات النّداء، وعلت الأصوات تنادي: أين العلاقات الإنسانيَّة الحميمة؟!، وكيف نعيد للنسيج شدّته وترابطه؟ فهل هو الوقت المناسب لهذا النداء؟
وهل هو الوقت المناسب لتصاعد النبض في الإحساس بقيمة هذه العلاقات؟
أم أنه فقط صوت يخفُت في حدّة تداخل الأصوات الصاخبة في دوَّامات الحياة المكتظّة؟,.
وهل الناس حقيقة يحتاجون إلى عواطف تعيد للعلائق أواصرها؟ وما هي دوافع هذه الحاجة؟
أسئلة,.
كالنصل من الوريد للوريد,.
لكن ليس ثمة دماءٌ تسيل!
ولا ضحايا يتساقطون,.
لأن الحياة المعاصرة تَغُذُّ في السَّير نحو تباعُديّة أكثر، وذوبان أشدّ لأيّة رابطة، ليس بين المجموعة والأخرى، بل بين الواحد والواحد، وبين الإنسان وذاته.
أليس كذلك أيها الملَّاح ,,,؟!
د, خيرية إبراهيم السقاف