النهار قياس زمني,, ونهاري تمثُّلٌ ذاتي أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري |
مرت ثقافة نهاري ليل ، وقالوا: يدخل في الحقل المعجمي للنهار النور,, وقالوا: يدخل في الحقل المعجمي لليل الظلام.
قال أبو عبدالرحمن: هذا أول لغو في تنظير البنيويين والتفكيكيين، فليس النور من معاني النهار معجميا؛ بل النهار قياس زمني يبدأ بطلوع الشمس في العادة، وينتهي بغياب الشمس في العادة: سواء اكان النهار نورا بضياء الشمس، ام كان ظلاما من غيم او غبار أو دخان,, وهذه الوحدة الزمنية القياسية ذات اجزاء لها مسميات كالاصيل والضحى والهجير والظهر والعصر.
والنهار يوصف بما يعتوره من ظلام ونور وغلس بين بين، وصفة الشيء ليست هي معناه اللغوي، وانما هي دلالة اخرى مضافة اليه.
والتصور للنهار من ظاهر صفاته في مجرى العادة انه نور وضياء لوجود المقتضي وهو دوران الشمس في الافق، وتخلف المانع من حاجب لضيائها.
وهاهنا ملحظ نفيس وهو التفريق بين دلالة الاسم وصفات المسمى واجزائه مثل بيت وأسد؛ فالبيت اسم للكنّ المعروف يدل عليه بكل اجزائه من سقف وسارية وجدار وباب,, الخ,, ان البيت ليس اسما للسارية وحدها، ولا للجدار وحده,, الخ,, انه اسم لكل هذه الاشياء مجتمعة؛ فإذا جزئت فلكل جزء اسمه,, اذن الجزء داخل في المسمى؛ لانه منه، وليس داخلا في الاسم؛ لانه ليس موضوعا له ولا مطلقا عليه.
والاسد اسم لذلك السبع المعروف، ولذلك المسمى صفات كالشجاعة ونتن الرائحة (البخر)، فالصفة مضافة الى المسمى، وليست من مدلول الاسم؛ ولهذا تتعدد الاسماء لمسمى واحد (الترادف) مراعاة لاوصاف ووظائف ظاهرة ,,, وهكذا الليل قياس زمني يبدأ بغياب الشمس وينتهي بطلوعها؛ وليس الظلام مدلولا معجميا لليل، وقد يكون مضيئا بالقمر والشموع,, وكل ما سيق عن النهار فهو شامل لليل من ناحية الدلالة المعجمية.
قال ابو عبدالرحمن: وقد اسفلت في مباحثي اللغوية كثيرا ان المجاز اللغوي غير المجاز الادبي، وان المجاز اللغوي دلالة معجمية، وليس كذلك المجاز الادبي؛ لأنه دلالة جملة وليس دلالة مفردة,, وسواء اكان الليل نقيض النهار ام لا فليس ذلك تضادا لغويا من ناحية الاسم، بل هو تناقض من ناحية المسمى؛ لأن الزمان: اما ليل، واما نهار,, ولا واسطة بين ذلك؛ فإن قيل: ما بين طلوع الفجر الصادق وطلوع الشمس انما هو بين بين؛ فيجري بين الاوقات الثلاثة التضاد لا التناقض.
وقولهم: نهاري ليل: تناقض او تضاد اذا حملنا الكلمتين على المعنى المعجمي؛ لأن النهار غير الليل,, ولكن الواقع عدم التناقض او التضاد؛ لأن الكلام محمول على المجاز الادبي على سبيل التشبيه بعلاقة نفسية (1)
وقال اسماعيل شكري في تنظيره: الجملة (يعني نهاري ليل) حاملة تناقض ظاهري هو اللاتشاكل بين وحدتين دلاليتين تنتمي كل واحدة منها (الصواب منهما) على الاقل الى استبدال ادنى مخالف للآخر,, اي لكل وحدة دلالية حقل معجمي يتوفر على مقومات خاصة مثل (+نور) بالنسبة للوحدة الدلالية نهار,, و(+ ظلام) بالنسبة للوحدة الدلالية ليل مع وجود مقوّم عام مشترك بينهما (+ زمان),, (2) .
قال ابو عبدالرحمن: هذه الجملة القصيرة مشحونة بالفضول واللكنة والتمظهر المعرفي مع انه ليس وراء هذا التمظهر ادنى تحفة فكرية او علمية، وبيان ذلك من وجوه:
اولها: انه لا احتمال لتناقض خفي بين الليل والنهار لو اريد الحمل على المعنى المعجمي حقيقة ؛ فلا معنى للتعبير بالتناقض الظاهري,, وانما مراده ان ظاهر العبارة التناقض، ولا تناقض؛ لأن المراد المجاز الادبي,, لكنه اثبت تناقضا ظاهريا عندما اراد نفي التناقض من ظاهر العبارة في ذهن المتلقي لا في العبارة نفسها.
قال ابو عبدالرحمن: الظاهر ليس هو حقيقة المفردة اللغوية، وانما الظاهر ما قام البرهان على انه مراد المتكلم سواء اكان باسلوب الحقيقة، ام باسلوب المجاز,, انه لا تناقض ألبتة في الظاهر أو الباطن ما دام المراد معلوما.
وثانيها: أن كلمة اللاتشاكل زيادة اصطلاح ملبس لا حاجة له؛ لأن التناقض معروف فلا نحتاج الى الاتخام بمصطلح جديد,, ثم ان اللاتشاكل غير مؤدٍّ لمعنى التناقض انطباقا؛ فحصل مع الفضول إلباس.
وثالثها: عبر عن مفردتي ليل ونهار بالوحدتين، وهذا فضول؛ لأن المفردة والكلمة هما التعبير اللغوي المتعارف عليه؛ فالتعبير بالوحدة زيادة اصطلاح لا حاجة اليه، ولا مسوغ له الا التمظهر الثقافي,, ثم هو اصطلاح ملبس لا يعبر عن المطلوب بانطباق؛ لأن الوحدة حينما يكون كم وانواع، وليس الأمر كذلك هاهنا.
ورابعها: قوله: على الأقل استدراك فضولي لأنه لم يذكر اكثر، ولم يذكر تصور مدلولات يستثني منها بالأقل.
قال ابو عبدالرحمن: فإن اراد ان ليلي نهار تحتمل الجمع بين النقيضين بالمعنى المعجمي لليل والنهار، وتحتمل تشبيه النهار بالليل بالمعنى المجازي الادبي: فالجواب:
أولا: ان هذا الاحتمال غير وارد؛ لانه لم يحكم باجتماع النهار والليل في آن واحد، وانما أثبت النهار باضافته إليه نهاري ,, ثم حكم على المحمول بأنه ليل؛ فعلم انه أخذ للنهار حكما من الليل، ولم يحكم باجتماعهما.
ثانيا: لو صح هذا الاحتمال: لما كان لقوله: على الاقل اي معنى؛ لأن أخذ أحد المعنيين لا يوصف بأنه أقل، ولأن الجمع بين المعنى المعجمي والمجاز الادبي غير متصور.
وخامسها: انه وصف كل واحدة من المفردتين (النهار ، والليل) بأنها تنتمي الى استبدال ادنى مخالف للآخر.
قال ابو عبدالرحمن: هذا كلام غير مفهوم فأين الادنى، وأين الآخر؟,, أين الأدنى، وأين الأعلى.
وفي أي لغة، وفي أي علم توصف مفردتان لغويتان بأنهما تنتميان الى استبدال أدنى مخالف للآخر؟!
ان جملة نهاري ليل تصلح لانسان منفرد في النهار في مكان مظلم، وتصلح لانسان في مكان ووقت مضيء أي في نهار ، ولكنه قاتم النفس؛ فيصف نهاره بأنه ظلام على التشبيه بالليل,, ففي الاولى بقي نهاره على مدلوله المعجمي؛ فلا انتماء ولا استبدال,, وبقي الليل على مدلوله المعجمي,, الا ان دلالة الجملة لا المفردة ارادة ظلام الليل على التشبيه للنهار المقدر فكرا.
وفي الثانية بقي النهار والليل على مدلولهما المعجمي؛ فلا انتماء ولا استبدال,, الا ان دلالة الجملة لا المفردتين ارادة ظلام الليل على التشبيه للنفس في نهارها.
انه ليس في الجملة أي استبدال، وانما في الجملة الغاء المتكلم لارادة المعنى المعجمي لليل، وانه يريد معنى مقدرا من صفات الليل هو الظلام على سبيل التشبيه، وان التشبيه للنهار نفسه، او لنفسه هو في النهار,, وبقي الليل والنهار على معنييهما,, الا ان معنييهما غير مرادين.
وسادسها: أنه فسر قوله: الجملة حاملة تناقض ,, الخ بقوله: أي لكل وحدة دلالية,, الخ .
قال أبو عبدالرحمن: ما بعد أي تفسير آخر غير دال على التفسير الاول؛ فلا معنى لكلمة أي ,, بيد أن الحس اللغوي ضعيف مرة، ومعدوم مرة عند متعلمين جعلوا اللغة موضوعا لتنظيرهم النقدي!!.
وسابعها: أنه وصف كلاً من المفردتين (ليل ، ونهار) بان لها حقلا معجميا, قال ابو عبدالرحمن: هذا فضول اصطلاحي جديد؛ لاجل التمظهر، وانما للمفردة معنى او معان معجمية,, وانما يقبل هذا الفضول لو كان يوزع معاني المفردة العديدة الى حقول كأن يقول: حقل الحاسة في مادة شمم وحقل الرفعة والشرف ، وحقل التقابل,, وهذا يكون في تقسيم معاني المفردات والتأصيل لها,, وصاحبنا هاهنا ليس بهذا الصدد، وانما يريد المعنى المعجمي للنهار الذي هو نقيض او ضد الليل.
وثامنها: انه قال عن المعنى المعجمي؛ يتوفر على مقومات , قال ابو عبدالرحمن: لغة العرب ان يقول: تتوفر فيه مقومات.
وتاسعها: انه وصف النور بأنه مقوّم للنهار، ووصف الظلام بأنه مقوّم لليل.
قال ابو عبدالرحمن: كلا؛ فليسا مقوّمين؛ لان النهار حيثما تطلع الشمس الى ان تغيب، والليل حيثما تغيب الشمس الى ان تطلع,, وانما هما وصفان اغلبيان، وليسا مقوّمين.
وبعد هذا كله: فأي جديد، وأي حاجة للتنظير في التذكير ببدهية ان لكل مسمى اوصافا تعرف منه ذاته لا من اسمه اللغوي؟!
وعاشرها: لا اعرف اي وجه من رمز علمي قديم، او رمز مستحدث اي مدلول لعلامة زائد + قبل نور وظلام!!
وحادي عشرها: انه وصف الزمان بالمقوّم العام المشترك لليل والنهار!!.
قال أبو عبدالرحمن: الاصطلاح بالمقوّم العام فضول؛ بل يغني عن ذلك المصطلح االلغوي بالمعنى العام لكل شيء له اجزاء او افراد ,, وبعد هذا فليس وراء اللفت الى هذه البدهية أدنى حاجة الى هذا التنظير المتمعلم.
وفي هذا التفلسف اللغوي الذي دُفعت اليه دفعا ابيّن ان بعض المعاني تكون لازم معنى غير مفهوم من الاسم، ولكنه مفهوم من المسمى ذاته,, ولازم معنى النهار وجود نور الشمس اذا تخلف المانع، ولازم معنى الليل غياب نور الشمس,, اذن لا ينتفي في الليل كل نور وضياء، وانما ينتفي نور الشمس فقط؛ وبهذا لا يكون الظلام ضربة لازب في الليل؛ اذ يوجد الضياء من منير آخر طبيعي او صناعي,, وليس الضياء ضربة لازب في النهار؛ اذ يوجد الحاجب لنور الشمس من طبيعي او بشري كأدخنة المصانع، والغرف المحكمة الاغلاق.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد سقت فلسفتهم في بناء التشاكل البديل من اللاتشاكل في كلمة ليلي نهار حيث ان الليل نقيض النهار او ضده,, فجاؤوا بجملة زنزانتي مظلمة مشاكلة لجملة ليلي نهار !!
قال أبو عبدالرحمن: هذا غباء آخر؛ لأن اللاتشاكل اي التناقض او التضاد بغير تعبيرهم لا يزال قائما بين الليل والنهار,, وانما التشاكل بين جملتين لا مفردتين حسب المجاز الادبي.
ان جملة ليلي نهار مجاز ادبي علاقته غياب ضياء الشمس في النهار، واداته التشبيه بالليل في احدى صفاته وهي الظلام,, وهي ايضا مجاز ادبي علاقته نفسية من ظلام النفس في وضح النهار (وغياب مبصِّر فكري او وجداني)، او الوحشة,, واداته التشبيه بالليل في صفة من صفاته كالظلام أو الوحشة.
قال ابو عبدالرحمن: هذا هو كل ما في الامر، وهو بدهي في استعمال العامي، ومن ابجديات البلاغة؛ فما الداعي لهذا الكلام الطويل المعقد، والاصطلاحات المنثالة الا التمعلم والتمظهر على احسن تقدير؟!
ثم قال اسماعيل شكري: بيد أن اعادة التقدير لبناء التشاكل تخضع لقيد انتقاء الموضوع لمقومات المحمول ما دامت العلاقة بين الوحدتين الدلاليتين هي علاقة التناقض (3) .
قال أبو عبدالرحمن: مع هذا التكنيس البنيوي عدة وقفات:
الوقفة الاولى: هذا التشاكل المقترح بين جملتين لا علاقة له بالتناقض القائم بين مدلولين معجميين كما اسلفت.
والوقفة الثانية: غاية هذا التشاكل المقترح بعد ادلائهم بكل ما في جعبتهم انه ايراد جمل اما مترادفة واما غير متناقضة,, لم يوضحوا المراد بالتشاكل، وسياقهم متناقض؛ فإتيانهم بالتشاكل مقابل اللاتشاكل يدل على انهم اردوا عدم التناقض؛ لأن اللاتشاكل جاءت نيابة عن التناقض,, والمقارنة بين الجمل دلت على انهم ارادوا الترادف على ان ذلك غير مسلم كما يأتي ان شاء الله في مناسبة قادمة.
والوقفة الثالثة: ان التشاكل ولا جديد في معاني التنظير اللغوي او الادبي يحوج الى هذا الاصطلاح سواء اكان ترادف جمل ام ارتفاع تناقض غير مرهون بما ذكره من علاقة حامل بمحمول في صيغة المبتدأ والخبر الصريحة، بل يكون ذلك في الكلام الانشائي، وفي الجمل الاعتراضية، وفي الجمل الفعلية التي مآلها الابتداء والخبر.
والوقفة الرابعة: من اللكنة التعبير بانتقاء المحمول؛ لان المحمول الجماد يُنتقى له ولا ينتقي هو.
والوقفة الخامسة: المسميان المتناقضان لايُحمل احدهما على الآخر الا بارادة حمل جزئي او وصفي؛ ليتحقق شرط او اكثر يرفع التناقض,, وليس ذلك وقفا على المقومات، بل يشمل الاوصاف غير اللازمة وهي غير مقومات كما اسلفت.
والوقفة السادسة: ان الإسناد الذي يرفع التناقض لا علاقة له بما ذكره مناعادة التقدير لبناء التشاكل ؛ لأن التشاكل بين الجمل لا علاقة له بالتشاكل بين مفردتين في جملة.
والوقفة السابعة: انه لا تناقض في الجمع بين كلمتين لهما مدلولان متناقضان مثل الليل والنهار,, وانما التناقض في اجتماعهما في آن واحد بمقتضى جملة تدل على اجتماع المسمَّيين وتحكم به مثل,, اول مرة في حياتي لقيت زيد بن محمد في الليل والنهار من يوم السبت من شهر كذا من عام كذا ؛ فتحقّقُ الاولية فيهما معاً محال؛ لانهما لا يجتمعان.
وجملة نهاري ليل غير متعينة للتناقض كالجملة السابقة، وليست دعوى التناقض هي الاظهر في الاستعمال، وليس فيهما جمع بين المسميين؛ لأن التناقض في المدلولين، ومعلوم ان النهار غير الليل,, اذن ليس ظاهر العبارة التناقض، وانما الذهن مستشرف من اول وهلة الى المعنى المجازي الذي ينتفي به التوحيد بين متغايرين.
قال أبو عبدالرحمن: لا نزال في ألف باء الانزياح البنيوي، ولم نحصل على غير المغالطة والدعوى والفضول واللكنة، والله المستعان.
الحواشي:
(1) قال أبو عبدالرحمن: انما ذكر البلاغيون العلاقة الحسية والعقلية,, وامثلتهم للمحسوسات الظاهرة، وهناك حس باطني وجداني سميته العلاقة النفسية في كتبي الادبية عندما ذكرت تراسل الحواس لدى الرمزيين كتشبيه المرئي بالمسموع؛ فالشعاع المرئي يحدث في النفس ألماً عند من يروعهم الفجر مطلاً كالحريق مثل ألم البركان المنفجر المسموع.
(2) مجلة فكر ونقد/ السنة الثالثة/ العدد 23 ص 117.
(3) المصدر السابق.
|
|
|