عرف عن الزميل الكريم، الصديق العزيز، الدكتور عبد الرحمن بن صالح الشبيلي حرصه على تقصِّي الومضات الفكرية في تاريخ أبناء هذا الوطن وإعلامه، وكان من هذا التقصِّي أن كتب في صحيفة الجزيرة الغرَّاء (22/8/1420ه) مقالة عنوانها: صفحات مجهولة في تاريخ الإعلام، أسرة الزهير تمتهن الصحافة خارج الوطن قبل تسعين عاماً وهي تتحدث عن بدايات العمل في الصحافة من قِبَل أفراد نجديين؛ وبخاصة اولئك الذين ظهرت محاولاتهم الصحفية في العراق (مثل آل زهير)، وقد ورد في تلك المقالة اسم إبراهيم الدامغ، الذي قال عنه الزميل الصديق: أظنه من اهل عنيزة وأنه ربما كان أول من اجرى مقابلة صحفية مع الملك عبد العزيز سنة 1331ه لجريدة الدستور في (البصرة) , وكان هذا مما شجعني على كتابة هذه السطور عن إبراهيم الدامغ وأسرته الكريمة التي تنتمي إليها والدتي رحمها الله، على أنني استطردت في بعض المواضع استطراداً ربما قبله بعض القراء الكرام.
ينتمي آل دامغ إلى تميم، وموطنهم الأساس روضة سدير, ثم انتقل أفراد منهم إلى بلدان اخرى، ومن هؤلاء جد آل دامغ المقيمين في عنيزة, ولانتقاله إلى هذه البلدة قصة: كان الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، المولود في روضة سدير عام 1284ه، في طليعة علماء نجد، علماً وفضلاً ومكانة، تولَّى القضاء في عهد الدولة السعودية الاولى، ثم تولَّى قضاء سدير والوشم في عهد الإمام تركي بن عبد الله، رحمه الله, وفي سنة 1248ه عيَّنه ذلك الإمام قاضياً في القصيم، واتخذ من عنيزة مقراً له, ومع أنه انتقل إلى شقراء سنة 1250ه، واستقام فيها حوالي سنة، إلا أنه عاد إلى عنيزة قاضياً للقصيم، واستمر هناك حتى عام 1270ه, ثم انتقل مرة أخرى الى شقراء وبقي فيها حتى وفاته.
لقد رأى الإمام فيصل بن تركي، رحمه الله، أن عبد العزيز بن دامغ أهل لتولِّي قضاء روضة سدير، فارسل اليه أن يتولَّى قضاءها, لكن عبد العزيز كان ورعاً جداً, ولهذا بحث عن وسيلة تقنع الإمام بإعفائه عن تولِّي القضاء, وخطر بباله شيخه وابن بلدته: الشيخ الجليل عبد الله أبو بطين, فذهب إليه في عنيزة مع ابنه سليمان، سيراً على الاقدام, ورحب به شيخه عبد الله، وطمأنه، وشفع له بأن كتب إلى الإمام فيصل ملتمساً أن يعفي تلميذه من تولِّي القضاء, واستجاب الإمام فيصل لشفاعة الشيخ عبد الله, وكان متوقعاً أن يعود عبد العزيز بن دامغ إلى موطنه: الروضة, لكن شيخه عبد الله أشار عليه بأن يجلس في عنيزة للتدريس فكان أن فعل، واحضر إليها بقية أفراد أسرته, وبدأ يدرِّس في تلك البلدة، فانتفع بتدريسه كثيرون بينهم أفراد من الاسر المتنفذة، سياسياً أو مالياً, وكان من هؤلاء الامير زامل بن عبد الله السليم الذي كان من أعظم الامراء النجديين، وعبد الله بن عبد الرحمن البسام، الذي كان تاجر نجد في زمنه, وقد عُمٍِّر الشيخ عبد العزيز بن دامغ طويلاً، ورُزق ابناً بعد تجاوز عمره مائة سنة.
كان من أبناء عبد العزيز الدامغ سليمان، وهو اكبرهم، وصالح، وإبراهيم، ومحمد, ولقد نفع الله بأولئك الابناء وأبنائهم، تدريساً وإمامة.
كان سليمان مساعدا لأبيه عبد العزيز في التدريس, ثم كان ابنه عبد الرحمن بن سليمان جد كاتب هذه السطور لأمه إماماً ومؤذناً لمسجد (الخريزة)، كما كان المدرِّس في المدرسة الملحقة بذلك المسجد, كان مثالاً للتقى والورع والرأفة بالفقراء, وكانت عنايته الفائقة بكنز التمر الموقف على إفطار الصائمين في المسجد المذكور، وخدمته اللطيفة لهؤلاء، تجسيداً حيا لتلك الرأفة.
ومن أمثلة ورعه المشهورة أنه جمع نوى التمر الذي أفطر به الصائمون، وباعه، ثم ذهب بثمنه، وسلَّمه إلى قاضي البلدة، الشيخ الفاضل صالح بن عثمان القاضي، بصفته مسؤولاً عن بيت المال فيها, وبعد وفاته خلفه الخال سليمان بن عبد الرحمن الدامغ في الاذان والإمامة والتدريس.
وكان صالح بن عبد العزيز الدامغ المدرِّس في المدرسة الملحقة بجامع عنيزة الكبير, وكانت المدرسة في الطبقة الارضية من منارة هذا الجامع، التي لم يوجد في نجد منارة تساويها ارتفاعاً قبل البناء الحديث، والتي ما زالت شامخة حتى الآن, وكان صالح إماماً لمسجد (الهفوف) في عنيزة حوالي ستين عاماً, ويقال: إن من نعم الله عليه ومن أدلة عمق حضوره الذهني في الصلاة أنه لم يقع منه سهو في صلاته طوال إمامته إلا مرَّة واحدة, وكان ابنه، عبد العزيز بن صالح، صاحب مدرسة خاصة متطورة، تدرِّس إضافة إلى القرآن الكريم ومبادىء القراءة والكتابة الإملاء والأناشيد والحساب، جمعاً، وطرحاً،وضرباً، وقسمة, ومن الأناشيد التي كان يطلب من التلاميذ حفظها وإنشادها الأنشودة المشهورة:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان |
ومن تلك الاناشيد انشودة فيها:
نهض الغرب ونمنا ومضوا هم وقعدنا ولهذا قد خسرنا حقنا بين الدول |
وقصيدة الرصافي التي منها:
سلام على الإسلام بعد محمد سلام على أيامه النظرات |
وكان الأستاذ عبد العزيز يدرّب التلاميذ على إنشادها بلحن شيِّق جذَّاب, وكانت له طريقته الخاصة الحازمة في تدريبهم على طلب الإذن بالانصراف لأي سبب من الاسباب, وكنت ممن سعد بالدراسة في مدرسته, ثم انضمت هذه المدرسة إلى المدرسة العزيزية الحكومية، كما انضم صاحبها إلى هيئة التدريس فيها.
وكان محمد، الابن الأصغر لعبد العزيز، الذي ولد لابيه بعد تجاوز هذا الأب مائة سنة، صاحب مدرسة في حارة (الشبايا) بعنيزة.
وكان عبد العزيز بن محمد بن سليمان بن عبد العزيز الملقب ضُعيِّف الله ، المدرِّس في المدرسة الملحقة بمسجد (أم خمار) مثالاً للزهد واللطف، ومن تلاميذه أستاذي الكريم الدكتور عبد العزيز الخويطر.
ولم يقتصر عطاء نسل عبد العزيز بن دامغ في مجال التدريس على الرجال من هذا النسل؛ بل امتد إلى النساء, فقد كانت ابنته (مضاوي) صاحبة مدرسة حفظ القرآن الكريم على يدها عدد من بنات عنيزة, ثم انتقلت إلى مكة المكرمة، وواصلت التدريس حتى توفيت هناك, وكانت ابنتها (موضي) تساعدها في التدريس.
أما إبراهيم بن عبد العزيز الدامغ، الذي ورد اسمه في مقال الزميل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي حول الصحافة السعودية في العراق، فقد عاش في عنيزة، ثم سافر الى العراق، وهناك اكتسب مهارة في المرافعات، واصبح الملك عبد العزيز، رحمه الله، يعهد اليه احياناً بالدفاع عن السعوديين امام المحاكم العراقية, وكان من علامات صلته به، ايضاً، انه جعله من بين اعضاء الوفد الذي أرسله الى عاصمة الدولة العثمانية بقيادة الرجل المشهور صالح بن عذل (والد معالي الشيخ محمد العذل), ثم عاد من العراق إلى عنيزة، وأقام فيها مدة قبل أن يسافر مرة أخرى الى العراق، حيث توفي هناك في منتصف القرن الماضي, وفي أثناء إقامته الأخيرة في عنيزة تولَّى إمامة مسجد (القاع) بضعة أشهر، وبنى بيتاً تجلَّت فيه لمسات حضارية تمثَّلت في مجلس رجال أنيق واسع يطل بنوافذ ذات مصاريع على عدد من النخل، وترتيب بقية اجزاء البيت ترتيباً حسناً.
وكان الشيخ إبراهيم الدامغ مهتماً بالشؤون العربية الإسلامية, ولقد وُجِد في بيته بعنيزة من الآثار المكتوبة ما يوضِّح ذلك الاهتمام, وكان كثير مما كان موجودا في هذا البيت قد ضاع مثلما ضاع كثير من اوراق بعض النجديين ووثائقهم مما لو احتفظ به لكان مصدرا مهماً من مصادر تاريخنا الوطني,وأذكر مثالاً على ذلك تلك الأوراق والوثائق التي خلَّفها جدّي سليمان العثيمين، رحمه الله, لقد كان من تجار نجد في مكة المكرمة، وقد ولد ابي صالح في تلك البلدة المقدَّسة، ونشأ حتى بلغ العاشرة من عمره, ولما توتَّرت العلاقات بين الشريف حسين والملك عبد العزيز ساءت معاملة السلطات في مكة للتجار النجديين، فعاد افراد منهم إلى نجد, وكان من هؤلاء الذين عادوا جدّي واخوه عبد الله, أما عبد الله فقد قتل في الطريق نتيجة لعدم الامن حينذاك, واما جدّي فوصل إلى عنيزة، وبقي فيها حتى توفي عام 1337ه, وكانت له صلة بعدد من زعماء القبائل، ومنهم أبو خشيم رئيس المراشدة من عتيبة، وقد نتج عن زيارات ابن أخت الجد، عبد العزيز التركي، أن تزوج هذا الأخير من المراشدة، واصبح يشد وينزل معهم، ولعلَّه كان من النوادر الذين انتقلوا من حياة الحضر الى حياة البدو، واصبح يُعَدُّ من العشيرة التي انتقل إليها في بعض الأمور بحيث أعلن رئيسها بأنه منها، وانه يرفق مثل بقية أفرادها.
مازال طيف الاوراق والوثائق التي خلفها الجد ماثلاً أمام عيني, كانت في زبيل كبير موضوع في كواجه في روشن المقصورة الذي هو جزء من بيتنا, وكانت تلك المقصورة جزءاً من السور الداخلي لبلدة عنيزة, وكانت الأوراق والوثائق كثيرة، بينها مراسلات مع عملاء الجد في اقطار مختلفة، وكانت تتضمن تسعيرات لكثير من البضائع, ومن بين ما احتفظ به ابن العم، محمد السليمان الدامغ، دفتر شيكات بنكية, كل تلك الاوراق والوثائق لم يحتفظ بها؛ بل ضاعت عندما امتدت يد التوسعة إلى البلدة وهدمت كثير من منازلها؛ ومنها البيت الذي كانت فيه الأوراق والوثائق المذكورة.
(يتبع)
د, عبد الله الصالح العثيمين*
* عضو مجلس الشورى