الثابت في السياسة السعودية د, عبدالعزيز بن إبراهيم السويل |
للمملكة العربية السعودية خصوصية تنفرد بها عن بقية دول العالم, تلك الخصوصية هي انها قد اخذت على عاتقها منذ تأسيسها مهمة خدمة الاسلام، ورعاية مصالحه في كل مكان, ولا يتحقق ذلك بمجرد التغني به أو ترديد المقولات حياله, بل لابد أن يدعمه عمل حقيقي يترجم معناه على أرض الواقع, ولقد دأبت المملكة على القيام بذلك كأساس من أسس قيامها، وحفاظها على هويتها, ولم يكن ذلك امراً ثانويا تنشط البلاد فيه تارة، ويقل حماسها له أخرى, فلم تتخلى المملكة عن هذا الدور رغم مالاقته، احيانا، من عنت وشطط، بل ان المملكة لازمت هذا المنهج يوم كان المد المعروف في الستينات والسبعينات من هذا القرن في أوج توهجه, وانطفأت كل المشاعل وبقيت شعلة الاسلام مضيئة متوهجة، وصدق الله العلي العظيم فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ولم يكن تعهد المملكة للإسلام مشجباً تتكىء عليه عند حاجة او في ظروف تستدعي ذلك، ثم ترفعه على الرف عند انتفاء الحاجة وتعود اليه متى قامت الحاجة وهكذا، بل ظل ذلك استراتيجية تتمحور حولها كل سياسات البلاد بل وتتحدد بموجبه مواقفها دون مراجعة أو دراسة لآثار ذلك الموقف او نتائجه, فالأمر - مبدئي ومحسوم ولا يقبل مساومة او مزيدا, والموقف محدد اصلا وابتداءً, ففي هذا تطبيق لمبدأ شرعي اسلامي ثابت هو مبدأ الولاء والبراء, وهكذا فالمنظور الاسلامي هو دوما الثابت في سياسة المملكة العربية السعودية مهما تعددت المتغيرات وتباينت المواقف, والولاء والبراء هو التعبير السلفي او التراثي المقابل للتعبير الدبلوماسي السائد اليوم والذي يشار اليه احيانا بالثوابت السياسية او الاستراتيجيات الثابتة, وهكذا فكل ما يعرض من جديد السياسة وقديمها يُعرَض على هذا المنظور، فما وافقه او لم يتعارض معه فلا ضير من درسه وتبني النافع منه وتمحيصه وتحليله ورفض الفاسد على اسس تتشابه كثيرا، بل تتطابق مع اسس السياسة المعهودة، ولا تتعارض مع المصالح التي تتوق الأمة الى تحقيقها، ولا يخرج ذلك عن القواعد العقلية والأطر السياسية التي تعارفت عليها الامم قاطبة, اما ما يتعارض مع الثابت (المنظور الاسلامي) فلا ينظر فيه اصلا حتى لو تبناه الحلفاء او الاصدقاء او حتى الاشقاء, ولقد عرف العالم هذه القاعدة ورضي بها وتقبل التعامل معها, وما ذلك الا لأسباب لعل أهمها ثبات المبدأ وعدم تبدُّله او تغيره لظروف او مصالح او أسباب, ولاشك أن لوضوح الرؤية عند صانع القرار السعودي ومنفذه ومتلقيه اثرا بالغا في تحقيق هذا النجاح في التعامل السعودي المريح لطرفي العلاقة, اما مادرجت عليه الدبلوماسية السعودية وخاصة في طرحها الاسلامي من تعقل ووسطية والتزام بالرأي مع استعداد للحوار وتقبل للرأي الآخر وعدم تدخل في شؤون الغير فهو، بلاشك، عامل هام آخر, ولابد ان للتطابق المدهش بين النظرية والتطبيق أثرا فاعلا في تحقيق هذا النجاح, فلا تناقض بين مايؤطر النظرة السياسية وممارستها، سواء على صعيد التعاملات الخارجية او من حيث الممارسة داخل البلاد, ولقد ادى ذلك الى حسم الجدل حيال كثير من القضايا الجدلية التي طالما كانت محل خلاف بين عدد من الاطراف, اما ما التزم به السياسي السعودي من اتزان وحكمة وتعقل يزجره عن المهاترة ويترفع به عن المزايدة، وخاصة عندما يأتي الامر للشأن الاسلامي الذي - وليس كمثله شيء آخر - لا يحتمل ايا من ذلك، فهو ينبثق اصلا من معطيات القرار السعودي, وهذا القرار تحكمه نفس المعطيات التي حكمت القرار الاسلامي منذ انبثاق نوره، وتؤطرة التعليمات التي اوحيت الى هادي البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وليس في مقدور بشر - اذا دان بهذا الدين - تجاوزها او اغفالها او الدوران عليها وان كان له الاجتهاد بفهمها والاستعانة بالعقل وما يحقق المصلحة بهديها.
وهذا هو سر الثبات في السياسة السعودية, وهذا هو السبب في سهولة استقراء الموقف السعودي, فليس في الامر مخفي الا بقدر جهل المحلل بالمعطيات والأسس, ولا يعني ذلك بالطبع سذاجة القرار او سطحيته وإلا لما سهر الناس جراه واختصموا, وان نام صانعه ملء جفونه قرير العين ورضي الضمير, لم تكن الخصوصية السعودية التي ألمحنا اليها في بداية الحديث مصادفة، بل هي في الواقع محصلة طبيعية لتاريخ عريق ملتصق بالاسلام دينا ومصدر تشريع, فالارض ارض الاسلام والشعب اصله ومادته والدولة دولته وراعيته, ولا يُعجز الباحث استقراء التاريخ, فمنذ اعلن محمد صلى الله عليه وسلم من مكة والمدينة المنورة دعوة لا إله إلا الله وهذه الكلمة مرفوعة على ثرى هذه الارض، وعندما ضاقت الارض بما رحبت بالشيخ المجدد المبدع محمد بن عبدالوهاب، لم يتردد الامام الصالح محمد بن سعود في التحالف معه، لا لشيء إلا للفطرة السوية، وسيراً مع جريان نهر التاريخ الذي لا يحمل معه إلا الصحيح مما اختاره الله جلت قدرته, وسرت الحياة في شريان التجديد الاسلامي وانبثقت الامة من جديد، ولم يضيرها التوقف برهات قصيرة, فعاودت حمل المشعل، وتوكل مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة على الله، وحمل اللواء وأقام بلاده على نفس الاسس معتمدا الثابت السعودي ومريحا نفسه، ومن تعامل معه، من عناء التقلبات، ومؤكداً سمات الثبات والعقلانية التي واكبت كل مراحل التاريخ الاسلامي في حال استقراره، والذي جاءت دولته كنموذج نقي له, واستقراء التاريخ منهج معتبر في الدرس التاريخي وهو لا يعني ببساطة تتبع الاحداث التاريخية وتسلسلها، بل يشمل تحليل تلك الاحداث، وربط ما يبدو منها على السطح مشتتا، وتكوين صورة متكاملة لتلك الاحداث ينبىء عن خط متواصل من الانماط يعبر عنه بالثابت.
ودراسة ماتحت السطح وتكوين الصورة المتكاملة ليست عملا سهلا يقوى عليه من لم يتمرس في درس التاريخ وتحليله الى عناصره، وتركيبه في منظومة تدهش المتلقي فيما بعد, ولا يسع المرء (كمتلقي) إلا ان يدهش من حقائق تبدو مشتته ولكنها للمؤرخ مترابطة، فكلمات الملك عبدالعزيز وعباراته تكاد تتطابق مع كلمات خادم الحرمين الشريفين وعباراته بعدما يقرب من نصف قرن, وليست تلك بالمصادفة بل هي تعبير مباشر عن الثابت ليس للمتكلم دخل كبير فيه , والجزم ان تلك العبارات التي اطلقت قبل نصف قرن لم تكن الا صدى لما قاله العظماء من قادة الامة الاسلامية في شتى سني استقرارها.
لقد تداعت لي هذه الرؤى عندما تابعت مع الكثيرين من الغيارى احداث افتتاح مركز روما الثقافي الاسلامي, فالمملكة العربية السعودية عملت بصمت واصرار لايعرف لليأس او الملل او التقلبات السياسية، والمصالح الآنية سبيلا, عملت على دراسة وانشاء وافتتاح هذا المركز، وهو في الواقع ليس الا نموذجا لما عملت مع غيره.
ولم تسعَ المملكة لإلحاق مركز ثقافي سعودي للدعاية لنفسها في هذا المركز، وكان من الممكن بل من الحق لها ان تفعل ذلك، ولكن ليس الهدف الذي سعت له المملكة ان تعرف بنفسها، فهي في غنى عن ذلك، وهي لا تقصد الا وجه الله الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور, والمملكة لم تربط السعي لدى الجهات المعنية في ايطاليا، وانشاء المركز او افتتاحه، وخدمة القائمين عليه، والتعاون مع الجالية هناك بأي مصلحة تعود على المملكة ماديا أو سياسيا, والمملكة لم تدخر جهدا وساهمت بجاهها ووزنها، وهو جاه عظيم ووزن كبير يستندان إلى كم هائل من الارث لم يكن لغير المملكة التوفر عليه, لم تدخر المملكة ايا من ذلك لتحقيق هذا الهدف وكأنه سعي لتحقيق مصلحة وطنية عليا وهو في الواقع كذلك.
وان لم يبدو على السطح خاص بها فهو في النهاية مسئولية العالم الاسلامي قاطبة, ولكن المؤرخ الذي يستقرىء التاريخ يفطن للمحرك الحقيقي في كل ذلك, انه ليس المصلحة الذاتية ولا الظروف الآنية وهو حتى ليس ما سيتحقق من ورائه من مطامع اقتصادية وسياسية.
انه الثابت الذي يحرك صانع القرار السياسي السعودي, انه قدره وخصوصيته, ولن تتغير سياسة المملكة العربية السعودية في الشأن الاسلامي مادامت السموات والارض فهي ليست مرتبطة بحكومة او متعلقة باستراتيجية او مبنية على معطيات حالية او مستقبلية او غيرها.
انه الثابت ولا شيء غيره.
هذه الافكار اوحت لي بها احداث افتتاح المركز الاسلامي في روما منذ خمس سنوات، عندما افتتح صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز ذلك الصرح الثقافي العظيم مقيما بذلك جسرا من التفاهم بين حضارتين, جسر تعجز آلاف المنابر والمحافل عن التعبير ببلاغته عن عزم هذه البلاد وولاة امرها على خدمة الاسلام، والذود عن حياضه، والتعريف به، ورفع كل ما وقع عليه من ظلم وزور وبهتان, ولقد عنّت لي هذه الافكار عندما قرأت خبر عقد مؤتمر عن العلاقات الاسلامية - الاوروبية وجهود المملكة العربية السعودية في اقامة حوار بناء بين الطرفين فلم اجد ما يوجب التغيير، بل رأيت ان هذا المؤتمر ماهو إلا درة كريمة في عقد ثمين من الجهود المتواصلة في هذا الطريق الخيّر, ومن محاسن الصدف بل من طبيعي الاحداث، ان هذا المؤتمر يعقد برعاية صاحب السمو الملكي سفير خادم الحرمين الشريفين في روما تحت قبة ذلك المركز العظيم نفسه, انها حركة التاريخ الهادر تؤكد مرة اخرى ان ما ينفع الناس فقط هو الذي يمكث في الارض, والحمد لله من قبل ومن بعد.
|
|
|