ويأتي القطار أخيراً بعدساعة مغرب و أصوات الليل الأديب والقاص محمد البساطي حكَّاء عجوز بلياقة عداء مسافات طويلة محترف |
** بعد ان اصدر القاص الروائي المصري محمد البساطي مجموعته القصصية الاخيرة ساعة مغرب ، وروايته اصوات الليل (والاثنتان في روايات الهلال)، تجيء روايته الاخيرة الماثلة للطبع و ياتي القطار العمل الثالث الصادر للعام الثالث على التوالي وعن نفس دار النشر, ليثبت البساطي لياقة مدهشة في الانتاج الادبي من ناحية، ومن ناحية اخرى يؤكد اهتمامه بدائرة الزمن كما تكشف عنها عناوين اعماله السابقة.
واذا كان البساطي قد قدم لنا لحظات النهايات عن طريق شخوص في نهاية العمر اصوات الليل وساعة مغرب وعن طريق ايام تصل الى نهايتها ويندثر الضوء فيها (الليل والمغرب)، فانه هذه المرة يعود بحدوته الزمن الى لحظات البدايات مفتتحا وياتي لقطار بصوت طفل يتكلم كأنه قطار الحواديت ، والحكي هنا هو الوجه الاخر للزمن كما يقول لنا البساطي في هذا الحوار المراوغ الذي نامل ان يتسلل -ولو قليلا- الى سر صندوق حواديت البساطي وقطاره الخيالي ,.
حلقة الوصل
* هل هناك خيط يربط بين ساعة مغرب و اصوات الليل و ياتي القطار ,,؟
-الاجابة على هذا السؤال من مهمة النقد الذي يعتبر اقدر على رؤية النص الادبي عني، فبعد الانتهاء من الكتابة لايتبقى في نفسي من النص غير ماكانت تثيره كتابته في نفسي قبل البدء فيه، اما الصورة التي يولد بها النص ومدى علاقتها بما كان في نفسي ، فلا ادري شيئا عنهما، واتلمسهما لدى القارىء, وعامة اعتقد ان ثمة خيوطاً كثيرة تربط بين اعمال المبدع: الرؤية- تناوله للاشياء وللشخوص - المكان المفضل لديه- الاشياء الصغيرة التي تميز كاتبا عن الاخر بحيث تقرأ كتابته فتقول انه هذا الكاتب بعينه, وقد حدث من قبل ان تناولت قصة خارج حدود النص الذي وضعتها فيه اولا، فقصة الارامل المنشورة في مجموعة منحنى النهر كانت مكتوبة منذ زمن طويل الا انني شعرت بعد كتابتها انها في حاجة الى عمل آخر حتى جاءت في رواية اصوات الليل .
* حرف الواو الذي يأتي في مطلع عنوان روايتك الاخيرة - وياتي القطار - يوحي بان الاحداث معطوفة على شيء قبلها وكان هناك عبارة تسبقها؟
- في الحقيقة ان الذي خطر ببالي بالنسبة لهذا العنوان هو الايحاء بانتهاء مرحلة او فترة تاريخية للبطل، وكان القطار يأتي بعد هذه المرحلة.
* هل الامساك بالعمر الهارب هو دافعك لكتابة هذه الرواية، ام ولعك بالنهايات ,,؟
-اعتبر لحظات النهاية محطة للاسترخاء، لكني حتى الان لم ابحث في نفسي عن دافع الكتابة، وربما كان هو الامساك بالزمن الهارب الى جانب دوافع اخرى، وانا عامة لا اشعر بوجودي الا في الكتابة.
* احيانا تبدو رواياتك كالقصص المتتالية، وقصصك كرواية واحدة مقسمة، فما رأيك؟
-لست من انصار التصنيف فانا كقارىء استمتع بالقصة القصيرة وبالرواية بنفس القدر، وككاتب استمتع بالاثنين معا ايضا، لكني احسب نفسي قاصا اما كتابة الرواية بالنسبة لي فتأتي بالصدفة، فالرواية تبدأ بقصة ثم تروح تبني نفسها، ويجد النقاد مثلا ان فصول الرواية مبنية كبناء القصة وتكنيكها، وهو الملاحظ في مجموعة ساعة مغرب فقد اردت كتابة قصة عن التمثال وفوجئت بتنويعة على هذه القيمة فتوقفت ورأيت ان رواية سوف تظهر للنور لكنها للاسف كانت قد انتهت عند القصة الثالثة من المجموعة, وقد لفتت الناقدة الدكتورة لطيفة الزيات -رحمها الله- نظري لذلك في دراسة لها عن مجموعة منحنى النهر حيث تشكل بعض قصص المجموعة وحدة واحدة.
الشخصية المصرية
* ما احب اعمالك اليك؟
- احب اعمالي الى نفسي هي روايتي الاولى التاجر والنقاش فقد اكتشفت معها قدرتي على المضي في صناعة الروايات، لكني افضل ايضا مقولة احسان عبدالقدوس ردا على هذا السؤال حيث اجاب بانه يحب اعماله كلها بشكل متساو مثل محبته لاولاده, اما احب قصصي الي فهي قصة صبية من مجموعة ساعة مغرب لانها لم تنته من نفسي بعد الكتابة وربما اعود اليها في رواية او قصة اخرى.
* انت تقدم كثيرا من المسكوت عنه ومن الاحداث الصادمة دون اية رغبة في تفجير وعي القارىء لماذا ,,؟
-ان الواقع المصري نفسه ساكت لايستجيب للصدام، وتقول كتابات جمال حمدان ان واقعنا يتغير تغيرا بطيئا بدليل بقاء المستعمر البريطاني مثلا لاعوام طوال دون ان ينقلب الشعب ضده، لكن الامر لايرجع الى الاستسلام او التعاطف مع هذا الواقع القاسي بل يرجع الى تكوين الشخصية المصرية المحيرة التي احاول فهمها في الوقت نفسه الذي اراها فيه مكتملة داخلي.
* في رواياتك انقلاب لمسار الزمن، فما السبب؟
-لقد بدأت ويأتي القطار بصوت طفل صغير وتوحدت معه لحبي الشديد للاطفال، وكانت مجموعتي الاولى تحكي عن الاطفال لكنني فشلت في كتابة رواية للاطفال، اما البداية في اعمالي السابقة بشخصيات في مرحلة الشيخوخة ثم الانتهاء في هذه الرواية بشخصيات في زمن مبكر -اذا اعتبرنا ذلك مسارا عكسيا- فلم انتبه الى انه مغاير للمألوف، فانا لا اخطط لرواياتي، واذا كان الناس يعتبرون الروائي هو الكاتب الذي يخطط لكتابته ويرتبها في فصول وصولا لذروتها فانني وفقا لهذا الرأي لا احسب روائيا حيث انني اقف في صف انفجار الكتابة من تلقاء نفسها دون تخطيط مبدئي، وابحث عن لحظات تلقائية تبدو كلمعة الذهب وسط العمل، ومثل هذه اللحظات لايمكن التخطيط لها.
صندوق الحواديت
* من اين اتيت بصندوق حواديتك؟ وهل له علاقة بسيرتك الذاتية؟
-الصندوق بمعناه المباشر هو شيء هام للغاية في حياة الاسرة المصرية، فهو كاتم الاسرار الذي يمتلك حميمية خاصة بخلاف الدواليب مثلا، اما الصندوق بمعناه المجازي كمنبع للحواديت فيأتي من حصاد حياة ثرية جبت فيها القطر المصري بجميع انحائه، فقد كانت ظروف عملي كمفتش بالجهاز المركزي للمحاسبات تجعلني افتش كل شهر بمنطقة مختلفة، وهكذا اكتسبت مشاهدات اساسية بالنسبة لاي كاتب، فبدرية مثلا- بطلة اصوات الليل - هي شخصية عرفتها في القرية وانا صبي، وكذلك شخصية الجد في ويأتي القطار ، فقد كانت الحياة في القرية في فترة الطفولة بمثابة مخزون من الحكاوي التي تجذب اي كاتب كي يلجأ اليها بما انه لايكتب من فراغ, واود ان اؤكد ان لاعلاقة على الاطلاق بين رواياتي وسيرتي الذاتية، واود ان اضيف ايضا انني كطفل كنت اتواجد في مجالس النساء اسمع حواديتهن التي تثبت في الذاكرة.
* هل لذلك تبدو المرأة اكثر تمردا في اعمالك؟
- ان المرأة في القرية هي عمود البيت اما الرجل فصوته عال لكنه مكسور من الداخل، والمرأة اكثر عمقا في تأمل الحياة واكثر قدرة على التمرد والعصيان والحب العميق, وعندما تجاوزت سن الطفولة طردت من مجالس النساء مثل جميع اقراني ممن غلظت اصواتهم ونبتت شواربهم، وفي تلك المرحلة يمكننا ان نقول انني كنت احاول التسلل اليهن بعد ان انقضى حقى في الوجود بينهن.
* تنتهي روايتك الاخيرة باغفاءة الجد مثلما يحدث مع شخوص اخرى في اعمالك، فماسر ذلك؟
- من يعش في القرية المصرية يعرف ان الاغفاءات القصيرة شيء يومي معتاد يحدث على عتبة بيت او تحت شجرة او فوق حمار، وهي احد الملامح الواقعية للحياة الريفية التي احكي عنها حكيا اؤمن بانه الوجه الآخر للزمن، انه ذلك الوجه للحياة الذي لايقع ابدا تحت سطوة الزمن,.
ولم تنته حواديت صندوق البساطي بمجىء القطار فمازال في صندوق مخيلته الكثير الذي سوف تكتشفه عيون القارىء فور ان يعلن البساطي عن اوانه,.
نورا أمين
|
|
|