الوظيفة العامة بين الرقابة والنزاهة د,علي الدين هلال |
انعقد في واشنطن، في الاسبوع الماضي، مؤتمر دولي بشأن مكافحة الفساد في الادارة الحكومية، شارك فيه آل جور، نائب الرئيس الامريكي، وكذا وفود من ستين دولة، والذي اشار في خطابه الى ان انحراف الموظف العام يؤدي الى زيادة معدلات الجريمة، ويضر بالاستثمار، ويعطل عجلة التنمية، ويستنفد موارد الدول وميزانياتها.
وجاء هذا المؤتمر استمراراً لمؤتمر آخر شهدته واشنطن منذ عامين دار حول موضوع الأخلاق والحكومة , وتحت شعار :الخدمة العامة تقوم على الثقة ، ناقش المؤتمر موضوع سلوك الموظف العام، واساليب الرقابة القانونية والقضائية التي تحول دون انحرافه بالوظيفة العامة عن هدفها، او استخدامه السلطات المخولة له بمقتضاها على غير ما خصصت له من اغراض.
والهدف من هذا النوع من المؤتمرات هو تبادل المعلومات والخبرات حول الطرق المختلفة التي يتم بها التأكد من سلامة السلوك الاخلاقي للموظف العام، وتحديد المعايير التي يتم استخدامها في الدول المختلفة لتحقيق هذا الهدف، وخلق الشعور بان موضوع اخلاقيات الموظف العام ونزاهته هو امر هام يتعلق بالاستقرار السياسي وبشرعية نظام الحكم.
وتنبع هذه الفكرة من التمييز، الذي يقيمه الفكر القانوني والاداري، بين الوظيفة العامة و الوظيفة الخاصة ، وبين الصالح العام و الصالح الخاص , لذلك ، يسمى الموظف الحكومي بالموظف العام ويسمى الجهاز الحكومي او جهاز الخدمة المدنية باسم جهاز الخدمة العامة , ويقصد بذلك، ان الموظف العام، وهو الموظف في اي ادارة حكومية هو -بحكم التعريف- يتعامل مع الشأن العام, بمعنى انه ينفذ سياسة عامة وضعت لصالح المواطنين وخدمتهم، وان وظيفته هي تنفيذ هذه السياسة بما يحقق مصالح الجمهور ويحل مشاكلهم، بعبارة اخرى، اذا كان التاجر، او صاحب رأس المال مثلا، يتعامل مع الشأن الخاص ويؤدي عمله الى تعظيم المنفعة الخاصة به، فإن الموظف الحكومي يتعامل مع الشأن العام ، المتعلق بتنفيذ السياسات العامة، والتي ليس له في تنفيذها مصلحة ذاتية مباشرة.
وتعود هذه الافكار، في اغلبها، الى المفكر الالماني ماكس فيبر، الذي اكد على احترافية الموظف العام، وانه يقوم بعمله ممثلاً للمصلحة العامة ومطبقاً او منفذاً للسياسات العامة، من تعليم وصحة وإسكان، تم وضعها لتحقيق منافع عمومية تتصل باغلب المواطنين, ووصل فيبر الى القول، بان الموظف العام ينبغي ان يتحلى بالموضوعية، وان القانون يجب ان يطبق على الجميع دون استثناء او تمييز, ارتبط بذلك ايضاً، ان جهاز الادارة العامة في اي دولة هو جهاز فني، يطبق السياسات العامة التي يضعها السياسيون.
وبرز التمييز بين الحكم او السلطة السياسية من ناحية، وجهاز الخدمة المدنية او الادارة العامة من ناحية اخرى, فإذا كانت مهمة الحكم هي فحص المشكلات التي تواجه المجتمع ، والاختيار بين البدائل المختلفة، وحساب التكلفة والنفع المتوقعين من كل بديل، وفي ضوء ذلك يتم تبني سياسة او اتخاذ قرارما، فإن وظيفة جهاز الخدمة المدنية، او الادارة العامة، هي تطبيق السياسة او القرار الذي اتخذته السلطة السياسية بكل كفاءة واقتدار، والسعي الى تحقيق الاهداف التي توختها السلطة السياسية.
فالموظف العام - أيا كان منصبه- هو رمز للحكم، وما يقوم به من سلوك- في مجال تنفيذ السياسات والقرارات - هو تطبيق للسياسات التي اقرتها القيادة السياسية او مجلس الوزراء او الوزير, وكم من مرات انتهت الادارة في تنفيذها لسياسة ما الى عكس الاهداف التي ابتغاها صانعوها, وهذا يثير موضوع متابعة الاجهزة الحكومية ومحاسبتها والرقابة عليها.
ولكن الجزء الذي ركز عليه هذا المؤتمر هو ذلك المتعلق باخلاقيات الوظيفة العامة حتى يتم النأي بها عن مظنة الانحراف او الهوى، واهمية ذلك، ان المواطن العادي يتعامل مع الدولة ليس على مستوى التصريحات والخطب السياسية، وليس على مستوى الوزراء والقادة، وانما على مستوى عشرات الموظفين، ممن يكون عليه ان يتصل بهم لحل مشاكله اليومية في مجالات الحياة المختلفة.
وصورة الحكومة، في نظر اغلب هؤلاء، تتحدد بشكل تعاملهم مع هذه الهيئات, واذا ماشاع في هيئة ما الانحراف، او استخدام الوظيفة العامة لاغراض التربح او المنفعة الخاصة، او اذا شعر المواطن ان عليه ان يسلك طريقا جانبيا، على خلاف ما اقره القانون لانجاز عمله، فان ذلك يؤثر على علاقة المواطن بالحكم, وفي المجتمعات التي شاعت فيها ممارسات الانحراف الاداري، او توظيف المنصب العام لصالح المنافع الخاصة، فإنها سرعان ما واجهت مصاعب عدة تتصل باستقرارها الاجتماعي والسياسي، واهتزت صورة الحكم بها في عيون المواطنين.
ان نزاهة الادارة ،وارتفاع الموظف العام عن مستوى الشبهات، هي مسألة رئيسية في العلاقة بين الحكومة والمواطن في اي دولة، لان فقدان الثقة في نزاهة الموظف العام يؤدي الى اهتزاز صورة الحكم وشرعيته, وما الشرعية السياسية الا علاقة نفسية بين المواطن والحكم، علاقة تتضمن الرضا والقبول او الرفض والنفور, والنظام الذي يتمتع بالشرعية هو ذلك الذي يشعر المواطنون انه يمثلهم ، ويعبِّر عن مصالحهم ، وتقوم مؤسساته بحل مشاكلهم.
الرقابة على سلوك الموظف العام اذن ليس قضية فنية او بيروقراطية، ولكنها عمل سياسي في المقام الاول, ومن هنا تبدو اهمية علاقة اخلاقيات الوظيفة العامة بالاستقرار السياسي وبالشرعية السياسية.
|
|
|