أفق طرابيشي: الجابري,, عقبة ابستمولوجية!! |
ضمن سياق مشروعه النقدي التفكيكي (نقد نقد العقل العربي) أصدر جورج طرابيشي كتابه الثاني تحت عنوان (اشكاليات العقل العربي) 98م وهو بهذا يواصل ما بدأه في الجزء الاول، من محاولة جادة في تتبع المصادر الاساسية التي شكلت في مجملها سمات وبنيات العقل العربي عند الجابري، وربما كان هذا الجهد المضني من جهة الطرابيشي ينطوي على اعتراف ضمني للأهمية التي يشكلها خطاب الجابري داخل الفكر العربي، وما يثيره من اشكاليات وتساؤلات تدور حول التراث من جهة والمناهج والعلوم الانسانية الحديثة من جهة اخرى ولئن كان الجابري بهذا الحجم والحضور بحيث استطاع ان يفعّل دائرة الحوار ويوسع من نطاقها ويجعل الكثير من المفكرين والباحثين المعاصرين، ينجذبون الى دائرة الحوار سواء كان بالسلب أو الإيجاب، فإن طرابيشي يؤكد من بداية مشروعه الى ان مشروع الجابري يمثل، عقبة ابستمولوجية استطاعت ان تحكم سيطرتهاعلى قضايا التراث والعقل العربي وان تجعل باب الاجتهاد والتأويل مغلقاً في هذه القضايا.
الامر الذي يعكس بصورة واضحة الأهمية التي يعول عليها طرابيشي مشروعه من حيث انه يكشف عن جوانب مهمة مزيفة تعتبر بمثابة حجر الاساس في خطاب الجابري ابرزها - كما بينها في الجزء الاول -نظرية العقل - اولاً: الكشف عن زيف التقسيم التعسفي للعقل العربي الى عقل برهاني وآخر بياني وثالث عرفاني وكذلك تصوره الصراع فيما بينهم الذي ينتهي بانتصار العقل العرفاني الامر الذي بني عليه احكامه الخاطئة على بعض مفكري الإسلام وفلاسفته ثالثاً: الكشف عن وقوع الجابري في منزلق المركزية الاثنية للفكر الامر الذي يصبح مأخذاً كبيراًعلى الجابري رابعاً: الكشف عن تهافت بعض المقولات مثل موت العقل البرهاني العربي والقول بالقطيعة الإبيستمولوجية بين المشرق والمغرب، وايضا حكمه على الفكر العربي المشرقي بالتهويم الصوفي، والمغربي بالعقلانية خامساً: الكشف عن وقوع الجابري في آفة الانتفائية بل التزوير عندما قارب العقل الاوروبي الحدث مختزلاً اياه في فلسفات: مالبرانش وديكارت وسبينوزا وهيجل غافلاً اهم مرتكزات هذا العقل مثل نيوتن وغاليليو وبويل الذين صنعوا الثورة العلمية التجريبية في اوروبا.
وأخيراً: الكشف عن المغالطة التي ذهب اليها الجابري عن العقلية اليونانية التي تتسم (بالديمقراطية والتعدد بينما اتصفت العقلية العربية - في نظره - بالبداوة والطغيان والفساد؟ وذلك من خلال قراءة خاطئة لبعض النصوص الخلدونية), وعلى الرغم من البراعة والقدرة التي اظهرها طرابيشي في تتبعه الدقيق للإشكاليات والمقولات الجابرية في اشتباكها مع مراجعها، فإن النتائج التي توصلا إليها في النهاية حول فكر الجابري لا تعد سبقاً معرفياً له، فقد توصل اليها بعض المفكرين قبله، الذين ناقشوا اطروحات الجابري مثل طه عبدالرحمن، عبد السلام بنعبد العالي وطيب تيزيني وعزيز العظمة الذين كشفوا عن لا تاريخية الطروحات الجابرية برغم بريقها، وهذا السياق يقول د, محمود اسماعيل - قراءة نقدية في الفكر العربي ص 22 - (إن الانتقادات التي وجهها المؤلف الى فكر الجابري سبقه اليها الكثير من الدارسين ومن المؤكد ان المؤلف اطلع على كتاباتهم لكنه للاسف لم يشر ولو مرة واحدة الى اي فهم برغم ثراء توثيقاته وامانتها,, لقد اتعب المؤلف نفسه, ليتعب قراءه باجترار معلومات معروفة سلفاً؛ اذ ان اقصى ماتوصل اليه لا يزيد عما قرره سابقوه وحسبي الى حكمي الشخصي على مشروع الجابري بانه ترديد لمقولات الاستشراق الكلاسيكي خصوصا المتحامل منه على الفكر الإسلامي؛ وإعادة صياغتها ودعمها بمناهج غربية حديثة ومعاصرة).
بيد ان هذا الاشتباك مع فكر الجابري لم يكن ليحرر الفكر ذاته من توجهاته المحصورة في ثنائية (الذات/الآخر) بمعنى انه لم يحدث ان كان هناك نوع من القراءات المحايثة (النقدية) التي تبحث وتنقب وتحقق في دهاليزالتراث بالشكل الذي يعيد علاقتنا بالتراث من خلال بعض الإزاحات المعرفية على مستوى الوعي و الفكر والثقافة وبالقدر الذي نتحرر من الآخر لا بوصفه كائناً معرفياً - ثقافياً وانما بوصفه كائنا تأمرياً يضغط على الذات نفسياً وشعورياً سيمكننا ذلك من تحرير ذواتنا اولاً وتحرير اسئلتنا من ثقل وطأة الآخر،وإعادة صياغتها طبقاً لتحولات المرحلة الزمنية الراهنة والوضع الحالي للعقلية العربية على كافة المستويات هذا من جانب، امام من جانب آخر، فثمة نقص شديد ونادر الحصول في تطبيق العلوم الإنسانية بجوانبها الثرية التي من خلالها يمكن ان تؤدي الى نتائج ايجابية فيما يخص مجتمعاتنا العربية وما تحمله من صفات متنوعة ومختلفة لذا يتطلب الامر جهداً لايمكن الاستهانة به اطلاقاً.
***
بالرجوع الى كتاب الطرابيشي (اشكاليات العقل العربي) نجد انه يحتوي على فصول ثلاثة: اشكالية الإطار المرجعي للعقل العربي (عصر التدوين) - إشكالية اللغة والعقل - إشكالية البنية اللاشعورية للعقل العربي وعلى الرغم من كثرة الاستطرادات والشواهد التي يستحضرها المؤلف فإن البادي للعيان هو خطورة تلك المغالطة التأويلية التي اسرت اشكاليات العقل العربي في منظور وهمي لايتجاوز حدود المعرفة وكذلك - ايضا - معرفته الضعيفة بطبقات الرجال في حقول العلوم الإسلامية المتنوعة ولو استعرضنا الفصل الاول (أو الإشكالية الأولى) لوجدنا أن المؤلف سعى إلى تفكيك الفرضية الجابرية التي تتعلق باسطورة عصر التدوين ثم سعى - ثانياً - الى بناء هذا المفهوم او هذه الفرضية طبقاً لآليات الحفر التوسعية التي طالت النص الذي اعتمده الجابري في تثبيت مفهومه عن عصر التدوين زمانياً ومكانياً وهو بهذا الإجراء استطاع ان يوسع من دائرة استقطاب النصوص التي اخضعها التحليل للنقد التفكيكي,ويمكن ان نجمل بعض النقاط التي تبين المآخذ التي رصدها المؤلف في إطارتحليل او كشف المسكوت عنه في خطاب الجابري.
اولاً: لا يذكر الجابري ابداً من اين استقى فكرة وتسمية (عصر التدوين) ويتوصل المؤلف الى ذلك المصدرالذي اخذ منه اصل الفكرة والتسمية - كما يؤكد المؤلف - وردت في مطالع القرن العشرين عندما وضع الشيخ احمد الاسكندري كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي).
ثانياً: يسكت نص الجابري عن المصدر الذي نبهه الى اهمية نص جلال الدين السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) نقلاً عن نص الذهبي وفي هذا الصدد يشير - المؤلف - ويؤكد على عدم إطلاع الجابري على نص السيوطي فضلاً عن نص الزهري بل انه اخذه او نقله من احمد امين حرفياً دون ان يلاحظ المفارقات والتناقضات التي بين النص الاصلي ونص احمد امين.
- ثالثاً: يتوقف نص الجابري عن القراءة التحليلية التي يفترض ان تقوده الى بيان السبب في اختيار سنة 143ه كسنة بدء مطلق للانقلاب التدويني الكبير حيث استطاع المؤلف ان يبين ان هناك تناقضاً بين هذا التاريخ والوجود الفعلي للرجال الذين وردت اسماؤهم في نص السيوطي باعتبارهم هم الذين قادوا هذا الانقلاب التدويني.
رابعا : يغيب عن خطاب الجابري تحليل ألفاظ نص السيوطي/ الذهبي تحليلا دلاليا، الامر الذي جعل المؤلف يستحضر النص الاصلي للذهبي، ويقوم بعدئذ بتحليل المفاهيم التي يحتوي عليها النص (التصنيف - التبويب - التدوين) ويخلص الى انها مصطلحات غير مترادفة - عكس ما يظن الجابري - تؤكد بدون شك ليس على براءة مطلقة - كما يزعم الجابري - لتاريخ عصر التدوين بل على الاستمرارية ولا على انقلاب بل على انتقال تدريجي.
خامسا: خلافا لما يؤكده الجابري بأن نص الذهبي ينطوي على مرجعية سلطوية تتمثل في خلفية صراعية - مذهبية (سنة شيعة) وذلك حينما اغفل او سكت في نصه - كما يقول الجابري - عن تبويب العلم وتدوينه لدى الشيعة، فإن طرابيشي يؤكد بعد تتبع وتحليل، ان هناك اسماء حاضرة من كلا الطرفين وهذه دلالة كبيرة على عدم اطلاع الجابري على النص الاصلي للذهبي من جهة ومن جهة أخرى - يؤكد المؤلف - على ان المرجعية المعرفية التي حكمت الذهبي وغيره من اعلام تلك الفترة ، هي مرجعية احترام الصحابة والتابعين، تقديرهما سواء كانوا من ابناء السنة او الشيعة.
سادسا : يسكت الجابري عن شخص الذهبي الذي هو بعيد كل البعد عن عصر التدوين او القرن الثاني او الثالث وحتى الذين اخذوا عنه هذه الفكرة عاشوا في القرن التاسع والعاشر وهذا معناه - حسب طرابيشي - امام رؤية (على البارد) وإنما نحن في الحقيقة امام رؤية مجلدة جرى تعليبها في القرن الثالث او الرابع برسم الاستهلاك في القرون التالية.
ويمضي المؤلف في سياق البحث الجنيني عن تحولات الفكر العربي الاسلامي من مرحلة الشفوية الى مرحلة الكتابية وما استلزم ذلك من تغيرات سواء على مستوى البنية الاجتماعية واتساع رقعة الاسلام جغرافيا او على مستوى تراكم المعرفة وتشعبها (خصوصا تخضم الحديث) او على مستوى التغيرات السياسية والاقتصادية التي مرت عليها دولة بني أمية, من كل ذلك يخلص المؤلف الى انه إذا كان يعد العصر العباسي الاول وفي خلافة أبي جعفر المنصور بالذات هو بداية التاريخ لعصر التدوين فإنه بالاحرى يجب ان يكون في خلافة عمر بن عبدالعزيز الاموي اي بالضبط 0في مفصل المائتين الاولى والثانية).
ولنا ان نتساءل أخيراً عن الفاعلية النقدية في فكرنا العربي المعاصر، هل في شأنها - مثل حالة الجابري - الطرابيشي - ان تفضي الى انتاجية فكرية مركبة اي بمعنى هل يشكل فكر الجابري وما يتبعه من فكر طرابيشي وحدة واحدة لايمكن ان تتجزأ مثلما وجدنا تماما في حالة الغزالي وابن رشد!!؟
محمد الحرز
|
|
|