تراسل الأسطورة واللوحة د, نذير العظمة
|
اما قصيدة المثال والمرأة فتحاكي لوحة اخرى لمجهول، لكن بداهة القصيدة تفسر اللوحة تفسيراً
حركيا ظل مضمرا في الاصل ان لم يكن مبهما لطبيعة فن حاسة العين وهو الرسم وفن حاسة السمع وهو
الشعر,
فاللوحة لازمان لها وإن تكلم النقاد عن ايقاع اللوحة ان فن الرسم فن مكاني يحتل مساحة مكانية
بينما الشعر فن زماني فهو ايقاع يجري في الزمن,
لكن اللوحة التي يحاكيها الدكتور ناجي وهي رسم بالريشة لمجهول، تحكي قصة نحات ينحت تمثالا
لامرأة وهي ماثلة امامه وفيما هو ينجز التمثال، يهتاجه جمال المرأة فيحطم التمثال,
وفيما تمثل قصيدة الدكتور ابراهيم ناجي اللوحة المرسومة بالريشة بلازمن يخرجها من مساحة
المكان الى ايقاع الزمان ففي القصيدة تعاقب زمني لا يتوفر في اللوحة, فالرسام كالنحات عكس
الشاعر لايستطيع ان يفصح عن عنصر الزمن في اللوحة الا ايماء ، بينما الشاعر يستطيع ذلك
بالكلمات فنفهم من القصيدة تعاقب الزمان وتتابع الحركة التي تنطوي عليها قصة النحات, افعال
تتعاقب في القصيدة وتمثل في زمن واحد في اللوحة والتي تحكي اصلا قصة النحات,
والوقاع ان هذا كله يوحيه لنا التفسير والشرح في الهامش اما المتن ففيه ملامح اخرى لكنه لا
يعبر عن الحدث الاساسي في علاقة النحات المزدوجة بالمرأة/ الحياة والتمثال الفن، وفيما عدا
المطلع الذي يشير الى المرأة والمثال لا التمثال لا نرى اشارة واحدة في الرباعيات الاربع من
القصيدة الى النحات او الى التمثال ثم العزوف عنه وتحطيمه والتوجه الى المرأة بل ان هذه
الرباعيات الاربع من القصيدة تؤكد على المرأة المثال,
ولا يكتفي الشاعر بالتعبير عن علاقة المرأة بالفن بل يثني على ذلك بعلاقتها بالحب الذي؟
و,,, تمشي الحياة على نوره
ومانوره غير عين امرأة
وعلى هذا فان ابراهيم ناجي يتحول عن حبكة اللوحة وتوزع النحات ما بين الحياة والفن الى شيمة
المرأة المثال ينبوع السحر والحسن والحب والفن وما من اشارة واحدة الى التمثال ,
اما مطلع القصيدة فيشير الى حواء والصراع الخالد ما بين الانثى والذكر مضمرا بالطبع عزوف
النحات عن التمثال وتحطيم اياه ومستبقيا في النص الشعري توجهه الى المرأة الحياة,
المرأة في المطلع والمرأة في الوسط والمرأة في الخاتمة فكيف اختفى التمثال الا من العنوان
ضمنيا؟! واختفى معه فعل التحطيم الذي القى الهامش عليه الضوء واحتجب عن القارىء في المتن،
ولعل قصيدة المثال والمرأة مثال واضح على طريقة ناجي بعدم التمركز بما تراه عينه والتحليق مع
مشاعره نحو المرأة والفن والطبيعة انطلاقا من رؤية تستحيل الى فكرة وعاطفة واحساس ، لابنية
او صورة ويمكن القول ان ناجي في قصائد التراسل يدني اللوحة الى طبيعته ويسبغ عليها من الذات
والذاكرة وهو ينقلها من البصري الى السمعي ولانغالي اذا قلنا انه يؤلف لوحة بينها وبين
اللوحة الاصل مسافة وتنطوي قصيدة المثال والمرأة على اهمية اضافية اذ انها تلمع الى اسطورة
بجماليون ولكن بسياق اخر يزحزح السياق الاصل الى ما يتفق مع حبكة القصيدة فهي تقوم على
ثنائية المثال والمرأة الفنان ومصدر الهامه وفنه لكن الفنان في القصيدة واللوحة يتحيز
للانسان للمرأة يحطم تمثاله عنها لانه يقصر عن جاذبيتها ودفئها وحنانها فهي بهذه جميعا تظل
اروع واعلى من الفن الذي يدنس طهرها حسب تعبير القصيدة فالفنان الذي يستوحي فنه من المرأة
يحطم التمثال ويعود اليها اي يحطم الفن ويعود الىالانسان,
طبعا لا اللوحوة تشير الى هذه الصلة تعبيرا بأسطورة بجماليون ولا القصيدة لكن الهامش يفصح
عما تضمنه عنوان القصيدة المثال والمرأة من موضوعة بجماليون الفنان الذي ينحت تمثالا للمرأة
الحبيبة ويتمنى ان يصبح التمثال حيا من لحم ودم متحيزا للحياة ، رغم تعلقه بالفن وهذا
بالواقع ماترمي اليه قصيدة ابراهيم ناجي الذي يحاكي لوحة رسام بالريشة عن الموضوع ذاته
فالفنان في اللوحة كالفنان في الاسطورة ينحت تمثالا للمرأة لكنه رغم شغفة بنحت التمثال يعود
الى المرأة الحية بينما في الاسطورة يتمنى بجماليون ان يصبح التمثال امرأة حية فكأنه بعزوفه
عنه قد الغاه او حطمه والواقع ان هناك مسرحية درامية لتوفيق الحكيم بنيت على اسطورة بجماليون
وحملت اسم الاسطورة عنوانا لها ومسرحية الحكيم لا تخرج عن سياق الاسطورة ولو انها خرَّجت
الموقف بين الفن والحياة تخريجا آخر ففي الاسطورة الاغريقية الاصل في روايتها الرومانية كما
وردت في التحولات كتاب الشاعر الروماني اوفيد ان بجماليون بعد ان نحت تمثالا رائعا للمرأة من
العاج يكاد ينطق ويكاد عاجه يصبح لحما طريا على اللمس كالجسم البض يتمنى على فينوسا ان يصبح
التمثال حيا,
ان روعة الفن مهما تسامت وعلت لا تنطوي على نبض الحياة ودفئها وحنانها لذلك بجماليون النحات
يتحيز للحياة وتجري امانيه في مجراها مع أنه جسَّد عبقريته وفنه اصلا في نحت التمثال,
واللوحة كما القصيدة في الهامش - تلمع الى نفس المعنى ولكن بتخريج مختلف بجماليون في
الاسطورة لم يتزوج التمثال بل المرأة التي انقلب التمثال اليها واللوحة كما القصيدة يحطم
الفنان التمثال/ الفن ويعود إلى الحياة المرأة وموضوع اسطورة بجماليون كان ولايزال مصدرا من
مصادر الالهام في الابداع الفني سواء اكان قصيدة او لوحة او مسرحية او اقصوصة فقد استوحى
برنادر شعر الاسطورة نفسها في عمل مسرحي ولكن بسياقات بديلة: كما استوحاها صادق هداية وهو
أديب ايراني ولكن ببدائل مختلفة,
اما توفيق الحكيم فظل في مسرحيته التي بعنوان بجماليون ملتصقا بالاسطورة ولا يختلف عن
الاشارة التي المعت اليها اللوحة التي استوحتها قصيدة ابراهيم ناجي,
فبعد ان ينحت بجماليون الحكيم تمثاله الرائع ويسبغ عليه من فنه وعبقريته يستنطقه - اي يتمنى
ان يكون حيا - فلا ينطق فيضربه بالمطرقة ويحطمه فهل اختار الفنان في تحطيمه هذا الحياة على
الفن، مع كل ما تعرضه من آراد الحكيم وتحيزاته للفن,
صادق هداية يخرج اسطورة بجماليون تخريجا اخر في مساحة محدودة لا لأقصوصة (ترجمت اهم اقاصيصه
دار الهلال الى العربية) ومعاد الاقصوصة كما يلي:
يتخرج طالب ايراني من الجامعة في مدينة اوروبية ويتهيأ للعودة إلى الوطن، وفي غمرة
الاحتفالات للتخرج يتجول الطلاب في شوارع المدينة ويشترون الهدايا للعودة الى ديارهم,
وبينما كان الطالب الايراني يتجول في شوارع المدينة يقف على واجهة محل للازياء ويتأمل
التماثيل او الدمى التي تلبس هذه الازياء للعرض وبعجب بتمثال امرأة تكاد تنطق من وراء بلور
الواجهة,
فيدخل الى المعرض ويطلب شراء ما في الواجهة قاصدا التمثال,
لكن البائعة تحضر له الفستان فيعرب لها عن رغبته في شراء الماتيكان التمثال فتطلب منه فرصة
لتسأل مدير المحل ويوافق المدير على ذلك ويحمل الطالب الايراني التمثال الى الجامعة ويشحنه
معه عند عودته الى الوطن,
وعندما استقبله أهله ظنوا انه احضر كتبا او هدايا في هذا الصندوق الكبير ولكن حالما بلغ
البيت امر بوضع الصندوق في مكتبه وبعد ان فرغ من التحية والسلام انفرد بالصندوق في مكتبة
واخرج تمثال المرأة وركنه في زاوية منه,وكان كلما يعود مساء من عمله ينفرد في مكتبه يشرب
ويغازل التمثال,
هذه الحال الخفية ارقت امرأته التي كانت تتلصص عليه من ثقب المفتاح وظنت ان رجلها احضر معه
امرأة حقيقية بعد التخرج,
بعد ان ذهب الى العمل دخلت المكتبة وتحققت ان هذه المرأة ليست غير تمثال لاحياة فيه,فاستعارت
ثياب المرأة التمثال وزيها ووضعت على وجهها وشعرها وشفاهها زينتها نفسها وجلست في الزاوية
المخصصة لها بعد ان اخفت التمثال في مكان آخر,
وبعد ان عاد الرجل الى بيته واسرع كالعادة الى المكمتبة وجلس الى كرسيه وبدأ عملية الاعجاب
والفزل كالعادة,
لكن امرأته تحمست لسماع كلماته الحب الرقيقة فتحركت صوبه فاخذته الدهشة والحيرة فأخذ مسدسا
من درج الكتب واطلق النار على امرأته فأرداها قتيلة وانتهت الحبكة بالموت,
هذه الاقصوصة ليست سوى اسطورة بجماليون ولكن بشكل اخر طالما كان التمثال في مكانه لايتحرك
فقد كان يقوم بوظيفته المرجوة منه كفن متعال عن الحياة ولكن عندما اصبح التمثال امرأة حين
حطمه الرجل بان ارداه قتيلا واسطورة بجماليون التي تعبر عن علاقة الفن بالحياة والحياة بالفن
شكلت في الثلاثينات من هذا القرن اثارة كبيرة للمبدعين العرب فبالاضافة الى توفيق الحكيم
ومسرحيته عنها نجد احمد زكي ابو شادي يكتب قصيدة بعنوان بجماليون وعلي محمود طه يكتب قصيدة
مطوَّلة بعنوان التمثال وبديع حقي يكتب قصيدة بعنوان نحت مستوحاة من الاسطورة نفسها وشاعر
سوري اخر هو عمر ابو ريشة يستوحي قصيدته الدمية منها اضف الى ذلك كله قصيدة المثال والمرأة
للدكتور ابراهيم ناجي التي حللناها في صدر هذه العجالة الامر الذي يستدعي مقالة اخرى عن
التراسل والاسطورة,
|
|
|