منطق الطير في الشعر الجاهلي د, حسن البنا عزالدين
|
صدر مؤخراً كتاب بعنوان الطير في الشعر الجاهلي للصديق الدكتور عبدالقادر الرباعي الاستاذ
بجامعة اليرموك بإربد، الأردن, وقد نشرت الكتاب المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت
،1998م, والكتاب عبارة عن ثلاثة مقالات منشورة سابقاً في دوريات علمية، ولكن المؤلف رأى ان
مابينها من علاقة يسوغ نشرها في كتاب، على خلفية البعد الجاهلي فكراً وفناً،,,,، (و) ،
امتداداً لدراسات اخرى في الشعر الجاهلي ، كان المؤلف قد نشرها من قبل في المنهج وأسلوب
الدرس الجديد على نحو مايذكر المؤلف في مقدمته (ص6),،
ويحمل المقال الأول عنوان الطير وعالمه في الشعر الجاهلي (ص 7 -61)، والمقال الثاني عنوانه
الطير والمعتقد في الشعر الجاهلي (ص 63 - 137)، واما المقال الاخير فعنوان التشبيه الدائري
في الشعر الجاهلي : دراسة في الصورة (139 - 199),،
وموضوع الكتاب من الموضوعات الشيقة في الشعر التي تندر فيها الدراسات (هناك دراسة بعنوان
القطا في اللغة والشعر العربي القديم للأستاذ الدكتور محمد السليمان السديس، مجلة كلية
الآداب، جامعة الملك سعود، م12 (1)، صص 3- 49 (1985)، لم يذكرها الرباعي في كتابه), ولذلك
ثمة مناسبة للحوار حول الموضوع, ولاشك اننا نتفق مع المؤلف على ان خصوصية الشعر الجاهلي
الفنية والإنسانية ماتزال تغري الباحثين بالعودة إليه، والربد بين الظواهر المختلفة فيه
ومدلولاتها القريبة والبعيدة, وقد سعى المؤلف الى الكشف عن العالم الحيواني للطير، وعن البعد
الإنساني له كذلك: إذ ان الشاعر الجاهلي كان يرسم معالم حياته من خلال (الآخر) المحيط به,
ولعل الحيوان بما فيه الطير هو (الآخر) بالنسبة له، لذلك شكل منه اشكالاً على قد افكاره
وسلوكه ومعتقداته ايضاً، فكان للطير في عالمه بعد متميز داخل اغوار نفسه، واعماق تجاربه
اليومية والمصيرية (ص5),،
ولايلتصق المقال الثالث عن ظاهرة التشبية الدائري بالمقالين السابقين تماماً، ولكنها ظاهرة
تدخل في إطار الصورة؛ لأنها تعتمد علىالمقاربة والمقارنة في الأوصاف والأوضاع والدوافع
الداخلية بين مكِّونين للصورة: أحدهما الشاخص امام الشاعر,
والثاني المسترجع من الذاكرة والوجدان والخيال معاً, (ص5) ولكن يجمع بين المقالات الثلاثة
محاولة المؤلف الكشف عن الأبعاد الأسطورية في صورة الطير والحيوان في الشعر الجاهلي,
ولأن مجال البحث في الطير في الشعر الجاهلي كان محدوداً للغاية حتى بحث الرباعي الموضوع كان
عليه ان يبدأ من الصفر تقريباً؛ من جهة اضطراره الىتقديم وصف مطول للمادة التي توفرت لديه في
المقالات الثلاثة على السواء، ومن الطبيعي ان يجهد الباحث في هذا المنحى الوصفي الذي يؤثر
عادة على الجهد المبذول في التفسير والتأويل, ولذلك يكون تقديرنا لعلمه محكوماً بالثناء
علىاهتمامه بالموضوع ابتداء، وجمع المادة العلمية، ووصفها, ولكن يبقى لنا أن نتحاور معه في
المنهج الذي اتبعه في تفسير الظاهرة, ولكن قبل ذلك سوف نحاول تلخيص الخطوط العريضة للموضوع
كما عرضه المؤلف,
وقد المّ المؤلف في مقالته الأولى بخصوصية الطير، وصفاته، واختلاف انواعه وأشكاله، وعلاقاته
مع انواعه الأخرى، ومع الحيوان، وحاول أن يتفحص أبعاد هذه الملامح للطير وانعكاساتها على
إنسان العصر الجاهلي من داخل الشعر نفسه, وفي ملمح خصوصية الطير يرصد الرباعي اقتران السرعة
بالطير في الشعر الجاهلي في سياق المقارنة بين سرعة الفرس والناقة، وهما الحيوانان الأساسيان
اللذان يظهران في القصيدة الجاهلية, وفي إطار الربط بين سرعة الطير وسرعة الفرس أو الناقة
تتبع الشارع الجاهلي حركة الإنسان في نفسه وتغلفل في اعماقه التي تدفع هذه الحركة وتوجهها
،(ص11), وبطبيعة الحال كان على الشعراء ان يختصوا طيوراً بعينها بالسرعة والمقارنة مع الفرس
والناقة، مثل الصقر في حالة انقضاضه على فريسته، وكذلك النسر، والعقاب، وكلها في حالة اقتناص
رزقها, ويضع المؤلف هذا الربط بين الطير وراحلة الشارع في وجه شبه هو اقتناص الرزق والسعي
إليه، وإن كشفت بعض الأمثلة هنا عن اعتداد راحلة الشارع بسرعته، مما يوحي بغرور صاحبها وشدة
إحساسه بذاته وقدرته,
ومن خصوصية الطير كذلك في الشعر الجاهلي طيرانه الجماعي الذي يوازن الشاعر بينه وبين جماعات
الإبل او الخيل، او حتى سرايا الجيش؛ كما في قول عنترة
كان السرايا بين قوٍّ وقارة عصائب طير ينتحين لمشرب | |
ومنها كذلك التبكير في الإفاقة، كما في شعر امرىء القيس المشهور
وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل | |
ومن الملاحظ في البيت أن وجه الشبه لايقتصر على مجرد الإفاقة المبكرة، بل السرعة كذلك
المتمثلة في سبق الفرس للأوابد, فهذا نوع من السبق, الشاعر يسبق الطير في الإفاقة وفرسه يسبق
الأوابد (التي ينتمي الطير الى جنسها من جهة عدم استئناسها) ويقيدها في مكانها, الشاعر يقيد
الطير في وكناتها، والفرس يقيد الاوابد في مرعاها,
ويرصد المؤلف خصوصية كل طائر بالإضافة الى الخصوصيات التي يتميز بها الطير عن غيرها من
الحيوانات, فالصقر والنسر والشاهين والعقاب وما شاكلها خصت بالقوة, وربما كانت ملاحظة المؤلف
،(ص22 هامش 25) عن ورود هذه الطيور بمفهوم واحد في الشعر الجاهلي تأتي من اختصاصها بمعنى واحد
هو القوة, وأما القطاة فقد خصت بلزوم ماء الورد، وأما الحمامة فتتميز بطوقها الذي يزين عنقها
زينة ثابتة دائمة لها، وخص الديك بصفاء عينيه، وقارنوا به صفاء الخمر، وارتبط الغراب بلونه
ال أسود ودلالته على الشؤم، وإن دل سواده أحياناً على بعض التفاؤل كما في قول الأعشى
وإذ لمتي كجناح الغدا ف ترنو الكعاب لإعجابها | |
أو استحالة حدوث امر باستحالة الشيب في الغراب,
وهناك طيور متلازمة الوجود في الشعر الجاهلي مثل البوم، والصدى، وهو ذكر البوم، والهام وهو
طائر الليل، ويرى المؤلف (26 - 27) أننا لو أمعنا النظر في خصوصية كل طائر لوجدنا انها تعبير
عن الإنسان الجاهلي في مواقفه الخاصة من الحياة والموت, بهذا يصبح معجم الطير الشعري حبلي
بالأفكار والمشاعر والرموز التي توحي بتلك المواقف، ويعطي المؤلف امثلة من علاقة الطير
بالطير في هذا الصدد:
مثل قول الأفوه الأودي
وترى الفوارس من مخافةِ رمحه مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ | |
فالمقابلة بين الصقر وبغاث الطير هي مقابلة بين إنسان قوي وآخر ضعيف، وهو ما أراده الشاعر من
استحضار الطير في البيت,
في المقالة الثانية عن الطير والمعتقد في الشعر الجاهلي يعمق المؤلف ملاحظاته بعد ان انتهى
من الربط بين حاجات الإنسان الجاهلي الروحية وتشكيله صورة الطير بملامحها المختلفة في الشعر
الجاهلي, وهو هنا يرى ان الطير في هذا الشعر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات دينية غيبية
بعيدة الجذور، بحيث يمكن ان تكشف عن تجليات متعددة للعقلية الوثنية العربية (ص 65 - 66), من
هنا لاحظ الرباعي اقتران الطير بالموت الإنساني، حيث تأتي دائمة صورة قتل العدو والطير تحجل
حوله
وقرنٍ تركت الطير تحجل حوله عليه نجيعٌ من دم الجوف جاسدٍ | |
فالموت الإنساني الذي تمثله عبارة نجيع من دم الجوف ، ,,، تقابله نشوة الطير بحياة جاءته مع
هذا الموت الذي تمثله عبارة الطير تحجل حوله وعلى هذا يغدو الطير ممثلا النقيض الأكبر او
ربما العدو الألد للإنسان (ص67-68),،
ومن مثل هذ الربط بين الطير والموت في الشعر الجاهلي يصل المؤلف الى ذكر الاعتقاد الجاهلي في
تصور النفس الخارجة من الشخص المقتول في شكل طائر (هامة) تصرخ مستوحشة، وتصيح بالقرب من ديار
المقتول وأهله حتى يؤخذ بثأره, (ص74) كما يصل المؤلف الى رصد علاقة الطير بالخلود، من خلال
سعي الإنسان الجاهلي، وقبله الإنسان الوثني مثل جلجامش، الى الخلود الذي يتمثل في إشارات
شعرية كثيرة، مثل قصة لقمان والنسر لبد التي ذكرها بعض الشعراء الجاهليين (ص 93) وفي صور
أخرى متعددة، يمكن ان ترتد الى اصول اسطورية، كما في ملحمة جلجامش نفسها, (98 - 99) وكما في
اسطورة العنقاء التي ذكرها بعض الشعراء (ص121 - 122) وقد تناولها نذير العظمة في كتاب اخير
عرضنا له في مقام آخر,
وقد وصل الرباعي بعد استعراض النماذج الشعرية التي ابرزت صلة الطير بالمعتقد الجاهلي الى
نتيجة عامة تحكم هذه الصلة، وهي ان للطير مهمة اساسية في تفكير ذلك الإنسان بمصيره في الحياة
وبعد الممات، ومن هنا جاء ربطهم إياه بالبعث والحشر، وبطلب الخلود، والخوف من المجهول أو
الجرأة على اقتحامه, وبناء على هذا تكونت عقيدة زجر الطير في العقلية الجاهلية، وأصبح لها
وظيفة مهمة في تشكيل حياتهم وأسلوب عملهم (ص126 - 127)،
وأخيراً نصل الى المقالة الثالثة عن التشبيه الدائري في الشعر الجاهلي, وقد اطلق الباحث هذا
المصطلح على ذلك التشبيه المطول والمدور الذي يبدأ بالنفي بما (وما) ثم يأتي جواب النفي
بصيغة افعل التفضيل مسبوقة بالباء (بأفعل), وغالباً مايكون بين بداية التشبيه ونهايته وصف
للاسم المنفي - وهو المشبه به عادة - قد يطول أو يقصر حسب حاجة الشاعر النفسية إلى ذلك, وقد
شكل هذا التشبيه نمطاً شعرياً خاصا في الشعر الجاهلي, وقد تتبع الرباعي هذا التشبيه في كتب
البلاغة حيث لاحظ عزل البلاغيين له عن باب التشبيه ووضعهم اياه في باب بلاغي آخر, ودرس
المؤلف موضوعات هذا التشبيه، وربط هذه الموضوعات والصور الشعرية المتضمنة فيها بالعقلية
الجاهلية الوثنية الأسطورية التي كانت تحكم تفسير أولئك القوم للأشياء,
ولهذا أمكن استنباط دلالات كبرى محتملة لتلك الصور, (ص 141),،
وقد رصد الرباعي الموضوعات التي سادت هذا التشبيه في الشعر الجاهلي فوجدها تتنوع بين الحيوان
والطبيعة والإنسان حسب أهمية الترتيب, وهو يعلل غلبة المصدر الحيواني للصورة هنا بطبيعة
الحياة الرعوية في العصر الجاهلي، ثم إنه قد يتوافق، بالإضافة إلى المصدر الطبيعي، مع سمة
البساطة في ذلك العصر، فالتوقف عند الإنسان لتصوير سلوكه يحتاج الى تعميق في الذات الإنسانية
وتعقيداتها، على حد تعبير المؤلف ,(154) ،
وقد احسن المؤلف استثمار امكانات هذا التشبيه في إلقاء الضوء على سردية القصيدة القديمة
والحس الدرامي فيها، وربط ذلك بالشعر الشفوي عند اليونان (177 - 181) ولكننا نرى ان المؤلف
جمع بين مفهوم (البساطة) وذلك الوعي بطول الصورة وبنيتها الدرامية والأبعاد الرمزية التي
يعطيها للصورة داخل هذا التشبيه, وهو مايمكن ان يوحي بالجمع بين المتناقضات ولعل هذه النقطة
هي الأساسية التي تختلف فيها مع المؤلف, ولعله يعي تماماًخطورتها في دراسة الشعر الجاهلي عند
دارسين آخرين لاتتوفر فيهم خبرته بهذا الشعر, إن مفهوم البساطة في الفن معادل تماماً لمفهوم
التعقيد, فالفن يقوم على مبدأ السهل الممتنع ، ولاينبغي ان ندخل على الممتنع من باب
السهولة, فالسهولة وهم في الفن, إنها توحي للمتلقي بأنه يستطيع ان يكون فناناً ولكن الحقيقة
هي انها تؤكد للمتلقي قدرته على التلقي لان الفنان قام بدوره على خير وجه، وعليه (اي
المتلقي) ان يفعل الشيء نفسه، ويقوم بدوره,
|
|
|