افق الثقافة العربية: الخطاب,, المفاهيم,,!، محمد الحرز
|
إن الاخفاقات المتلاحقة التي تطال حياتنا العربية في شتى جوانبها، ليست إلا شهادة على عمق
الفجوة التي تفصلنا عن حاضرنا وعن مستقبل أجيالنا القادمة، فهذه حقيقة طالما استشعرنا
مرارتها في حياتنا اليومية، وطالما استنفذنا طاقاتنا المعرفية والإبداعية في مساحات هامشية،
لا ترتبط بوثيق صلة بالسباق المحموم في المعرفة والتكنولوجيا والاتصالات التي تشهدها الساحة
عالميا ودولياً, إن أشد الاخفاقات الملموسة، هي تراجع المسألة الثقافية إلى الخلف، وإلى
دوائر قصية في سلم أولوياتنا وخياراتنا المعرفية، بحيث يكاد التأثير الثقافي باعتباره حالة
من المغايرة والاختلاف في الوعي والسلوك والموقف (الذي يصل أحيانا حد المعارضة) من الحياة
والتراث والمجتمع، أشبه ما يكون معدوماً، بل هو كذلك على كافة الأصعدة الثقافية المعرفية
بالخصوص، وليس هذا فحسب، بل إن الإقصاء والاستبعاد وحتى الاحتراب، يشكل جزءاً كبيرا ومحركا
ذا فاعلية قوية في بنية الخطاب الثقافي المعاصر، الأمر الذي يجعل منه خطابا سجاليا - تبريريا
لا يحاول التحرر من قيوده الأيديولوجية ومن مواقفه المسبقة المتضمنة فيه والمتخارجة على هيئة
صياغات لفظية، لا تنتج أي معنى يضفي على الثقافة العربية حركة وديناميكية بالقدر الذي تحافظ
فيه على بنية ثقافية ثابتة متعالية على البعد الزماني والمكاني فخطاب علي حرب في نقد المثقف
ليس سوى تضمينات استرجاعية لمشكلة الأفكار التي سبق أن طرحها المفكر مالك بن نبي, وسواء وعت
تلك النخب أم لم تع، فإن الوعي الثقافي المنتج، يضاف إلى كونه يعيش حالة من الاغتراب
والتغريب، فإنه يمارس تزييفا للوعي ذاته، وذلك من حيث استدراج الخطاب الثقافي إلى قضايا،
تغيب في داخلها أو بمعنى آخر تنحجب من خلالها هموم الواقع المعاش باسئلته الملحة والمتعلقة
بمصير المستقبل العربي، مما يشكل عائقاً ليس معرفيا فقط، وإنما عائقا وجوديا، يهدد الكيان
العربي بأكمله، في ظل الهيمنة الأمريكية على المنطقة,, من هنا تبدو الأمور أكثر سوداوية من
ذي قبل وخصوصا فيما يتعلق بالقضية الثقافية ومدى فاعليتها في الوسط الاجتماعي العربي، فهي
بتراكماتها المعرفية، لم تتجاوز أو تتخطى أفق الفكر الإصلاحي لمثقفي عصر النهضة (بداية من
رفاعة الطهطاوي وخيرالدين التونسي مروراً بجمال الدين الأفغاني والكواكبي ونهاية عند محمد
عبده ورشيد رضا) أو أنها لم تستطع أن تطور من آليات ذلك الفكر الإصلاحي بالقدر الذي تجعل منه
فكرا يستوعب في حركته المتغيرات والمستجدات الطارئة على الحياة، وإن يدمج في داخله ثقافة
الآخر بتنوعاتها وحقولها المعرفية المختلفة، إذن هذه إحدى العوائق أو الاشكاليات التي جعلت
من الثقافة العربية (سواء كانت الشعبية منها أو تلك التي تمارسها النخب المثقفة بجميع
تياراتها المتباينة) مغلقة على نفسها منذ السبعينات وحتى الآن، أي منذ أن بدأت تظهر معالم
الإنهيار والفشل للمشاريع القومية التنموية للدولة القطرية في الوطن العربي على أرض الواقع،
ومع إننا لا يمكن أن نستبعد من موضوعنا ما للعوامل الخارجية من أثر فاعل على مجمل تلك
الاخفاقات، إلا أننا معنيون جميعاً وبالدرجة الأولى بمجادلة الذات ليس من باب الاستحقار أو
الإلغاء والقطيعة وإنما من باب المصارحة والمكاشفة والجرأة وتحمل المسؤولية بكل ما تحمله هذه
الكلمة من معنى، غير ذلك لا يمكن أن نكون على اعتاب القرن الحادي والعشرين ونحن في فوضى
ثقافية غير متصالحة مع نفسها فضلا عن الآخر بثقافته شديدة التنوع والحركة التي لا تترك لنا
خيارا آخر سوى الدخول في لعبة التواصل والبحث عن أسس للنهوض من دوغمائية ماضوية مفرطة، وإذا
كان يوسف سلامة يرى أن الإصلاح الديني النهضوي قد نجح بالكامل وأنه فتح الباب واسعا للثقافة
الحرة والفكر الحر وأنه قد حمل الجيل اللاحق لهم تلك الرسالة وكان رائدها طه حسين أبو
الثقافة العربية الحديثة ومفجر الوعي العربي الحديث، فإن ذلك يصح ويصدق (من وجهة نظري) على
بعض المفاهيم المتعلقة بدراسة المنهج والتاريخ والمجتمع والتراث والمتضمنة في مجمل أعمال طه
حسين، العقاد، البرت الحوراني، شبلي الشميل وغيرهم، وهذا التراسل والتأثير بين الجيلين، لم
يجر إلا في دوائر ثقافية معينة، لم تشمل الثقافة العربية في مجملها خصوصا ما يسمى بالثقافة
الشعبية التي لها الدور الأكبر في تحريك ذهنية الوسط الاجتماعي في الوطن العربي، يضاف إلى
ذلك، أن فكرة التضامن الإسلامي التي سعى من أجل تحقيقها أو تطبيقها جمال الدين الأفغاني، لم
يكتب لها النجاح ولم تتحقق في الساحة العربية الإسلامية حيث بقيت مجرد خواطر في ذهنية
الأفغاني، وليست هذه سوى من بعض الدلالات المضمرة والمجهضة في ذات الوقت التي جاء بها
المشروع النهضوي,
،***
لقد ظلت الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة حبيسة مفاهيم من قبيل: القديم والحديث، الهوية
والإختلاف، الأصالة والمعاصرة، الوحدة والتجزئة، بحيث لم يتولد منها وعي نقدي، يطارح عقلانية
عصر التنوير الأوروبي ويخترقها من العمق كفعل معرفي - ابداعي متقدم على لحظته الراهنة، وهذا
لا ينطبق فقط على مثقفي العالم العربي، بل ينسحب - أيضاً - على مثقفي العالم الثالث بوجه
عام, إن مفهوماً مثل الوحدة والتجزئة ينظر إليه بوصفه نتيجة حتمية لتلك التحولات التي حدثت
في العلاقات الانتاجية الاقطاعية في عدد كبير من بلدان الوطن العربي إلى كونية رأسمالية
مفروضة وتبعا لذلك (أدى لتغير كيفي في عالم الثقافة المتطابقة مع عالم جديد) ويؤكد ذلك أحمد
برقاوي (الثقافة العربية المعاصرة ص 83),: (وعندي أن الحديث عن ثقافة عربية لا يعني على
الإطلاق الإقرار بوجود ثقافة واحدة وإن صفة العربية لا تعدو أن تكون صفة لإثنية أكثر منها
صفة ثقافية او أن التمايز الثقافي ليس أقل من المتحد الثقافي),،
ويكاد يكون هذا التحليل مسلمة تهيمن على المنظور الفكري في جل الخطابات الثقافية اليسارية
التقدمية دون أن يكون هذا المفهوم خاضعاً للتشريح والمراجعة والنقد المستمر الجاد، ولئن كان
من المهم أن نسلم أو نعترف بعوامل التجزئة التي تشكل عدة أزمات تعترض طريق المثقف أو تجعله
يعيش هموم الثقافة أو يعيش أكثر من أزمة على حد تعبير عبدالله العروي، فمثلاً المثقف
اللبناني - كما يقول العروي - (ثقافتنا في ضوء التاريخ - ص 171): (يعيش أزمة وطنه لبنان
الناتجة عن البنية الطائفية، ويعيش أزمة الثقافة العربية إذا كان عروبيا وفوق ذلك يعيش أزمة
العالم الإسلامي إذا كان مسلماً),،
لكن التحليل المفهومي من هذا المنظور يحجب أو يفوت عليه فرصة الوعي التاريخي لتجليات الثقافة
العربية بعيدا عن الوعي المرتهن بشروط الآخر، وليس هذا الاستقطاب الشديد للمفاهيم الثنائية
في الخطاب الثقافي العربي المعاصر سوى أكبر دلالة على أن آليات تفكيره تخضع لحركة الفعل
وردته في مجال انتاجه المعرفي والثقافي كما يذهب إلى ذلك جابر عصفور,
ويقطع المؤرخ رضوان السيد مع الرأيين السابقين للبرقاوي والعروي اللذين يؤكدان - كما سبق -
على تأثير العولمة أو الرأسمالية الكونية في التجزئة والتخلف - دون أن ينكر دوره - : (هذا
التشخيص - رضوان السيد، الثقافة العربية المعاصرة قراءة نقدية، ص 112 - يتجاوز عدة امور
أنجزتها الثقافة العربية في العقود الخمسة الأخيرة، تدخل ضمن مهماتها التاريخية إذا صح
التعبير، أول إنجازات الثقافة العربية وأهمها، تحقيقها ما يمكن اعتباره ثقافة واحدة ولا نعني
بالوحدة هنا عدم وجود التنوع، فالتنوع سمة أساسية من سمات الثقافة العربية القائمة، كما لا
نعني بالثقافة الواحدة غلبة لون أو تيار، إن ما نعنيه بالثقافة الواحدة المسائل التالية:
تقارب الأهداف الكبرى، واستحداث اللغة المشتركة، والتناغم بين المحلي والعربي الشامل) ولا
يمكن أن نغفل في هذا الصدد تلك الصيرورة الديناميكية التي يتسم بها التاريخ الثقافي العربي
والتي جعلت منه حركة تستقطب في مدارها كل العلوم والثقافات والهويات الاجتماعية الأخرى التي
تقاطعت معها دون أن يفقدها ذلك سماتها الروحية ومرجعياتها الثقافية التي درجت عليها من صدر
الإسلام على الإطلاق,
،***
لقد شهد الخطاب الثقافي - الفكري العربي الإسلامي عبر تاريخه حالات مماثلة من المفاهيم
الثنائية التي طوقته بمنظورها في فترة من الزمن غير قصيرة، منها مفهوم (العوام والخواص) ،
بوصفه مفهوما أفضى بدرجة كبيرة إلى حالة فصم بين الثقافة والمحيط الطبيعي والاجتماعي وذلك
بسبب ما يتضمنه هذا المفهوم من إجراءات معرفية تجعل من المعرفة والثقافة المتعمقة ذات طابع
خصوصي لا تفيض إلا على أصحاب المواهب النادرة التي أنعم الله عليها بملكة (العقل الفعال) ،
وأكثر ما يتضح ذلك أو يتجلى من زاوية الخطاب في العلوم الإسلامية: علم الكلام وعلم أصول
الفقه والفلسفة والتصوف، أما من زاوية السلوك الثقافي فإن أغلب المفكرين البارزين في الفكر
العربي الإسلامي يحملون تباينا يصل حد التناقض في السلوك باعتباره سلوكا يفترض فيه أن يؤثر
في الواقع الاجتماعي المحيط ولكن هذا نادر الحصول,
وفي هذا الصدد يثير من جهته د, نصر حامد أبو زيد - دوائر الخوف ص 147- : (إن الإنسان الذي
يتحدث عنه الفلاسفة,, هو الإنسان الفيلسوف وليس الإنسان الاجتماعي العادي, وهكذا تتحدد قيمة
الإنسان طبقا لمستوى وعيه المعرفي وينقسم البشر إلى عامة وخاصة, للخاصة سعادة الدارين وعلى
العامة تقليد الخاصة لينعموا ببعض السعادة,
هذا التقسيم للبشر إلى خاصة وعامة اتفق عليه أشهر خصمين في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية:
أبو حامد الغزالي صاحب كتاب (تهافت الفلاسفة) وأبو الوليد ابن رشد صاحب كتاب (تهافت
التهافت), ولكن لايمكن أن نذهب مع نصر حامد أبو زيد في حكمه الإطلاقي، فثمة استثناءات حاولت
بوعي أو بدون وعي أن تلغي من مجالها انثيالات تأثير هذا المفهوم وطغيانه من مقولات الخطاب،
من أعظم هذه الاستثناءات هي منظومة رسائل اخوان الصفا في القرن الرابع الهجري، فنراهم يقولون
في الرسالة الخامسة عشرة - اخوان الصفا، فؤاد معصوم ص 96: (عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول
فيها شبه المدخل والمقدمات لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها) ،
لذلك جاء أسلوبهم سلساً خفيفا قريبا من أذهان العوام، ولو قارنت نصا فلسفيا كتبه أخوان الصفا
ونصاً آخر كتبه مثلاً الفارابي أو ابن سينا لوجدت بونا شاسعا في طريقة العرض والأسلوب، لذلك
لا نستغرب ضمن هذا السياق الهجوم الذي تعرضوا له من قبل كبار المفكرين، فهذا مثلا التوحيدي
في الامتاع والمؤانسة يصف رسائلهم بأنها: (مبثوثة من كل فن بلا اشباع ولا كفاية وفيها خرافات
وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وقد غرق الصواب فيها لغلبة الخطأ عليها), في هذه العجالة لا يمكن
أن نستقرأ جميع الاستثناءات في تجاربنا الفكرية الثقافية في تاريخنا العربي الإسلإمي دون أن
يكون هناك استنهاض للعمل المؤسس المعرفي الثقافي وأن يكون هناك أيضا تناغم وتساوق في الانتاج
الثقافي المؤثر سواء على المستوى اللغوي أو السلوكي الاجتماعي، لأن الصعوبة تكمن - في ظني,
أولاً: في كيفية تجاوز الفترات الاجترارية التي مر بها الفكر الثقافي العربي الإسلامي
بالصورة التي تؤهله إلى أن يتصالح معها,
ثانياً في أننا إلى الآن لم نستطع أن نشحن الذاكرة الابداعية من شعر وقصة ورواية ومسرح
وموسيقى ورسم ونملأها بحيث تشكل ما يكون معادلا موضوعيا للتاريخ المفقود والمغيب في مضنات
الكتب التاريخية مقارنة بما يحدث في الفكر الغربي منذ اكتشاف امريكا أواخر القرن الرابع عشر
الميلادي والذي أعطى فيه للسرد الروائي المنتج الأولوية الفاعلة المؤثرة في الوعي ثم في
المجتمع على تنوعه واختلافه, ولئن كان الغرب يعيش حالة من تلاشي المثقف المؤثر وغيابه من
واجهة الأحداث تاركا دوره للمثقف التكنوقراي (أي المثقف العضوي بالمفهوم الفرامشي له) فإن
عالمنا العربي يحتاج إلى ذلك المثقف الذي يكون - كما يقول أدوارد سعيد، صور المثقف ص 28 -
مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تنسى ويغفل أمرها على نحو روتيني,,!،
محمد الحرز
|
|
|