حصْر الاستدلال على العقلي في الآن الذي يجري فيه إحالة الخبر إلى السمعي وتخصيصه به يقود إلى حتمية مفادها: أن المعقول أصل للمنقول، وهذا مبدأ جوهري يجري تداوله فلسفيا باعتبار أن العقل هو الدال على صوابية السمع وأن العقل يتموضع كوسيط لحصول المعرفة بالنقل؛ من هذا المنطلق قرر الفلاسفة الحكم بضرورة أولوية العقل إبان ورود ما يشي بأدنى مرتبة من التعارض بينه وبين النقل الذي يفترض -عند المناطقة وسدنة الفلسفة- تجريده من مبلورات الأصالة بالضرورة.
هذا الحكم الفلسفي تشكل وفقا لمقتضى الإلهيات الإغريقية المتكئة على أساس إفراد العقل بحسبه أصل الوجود، بل ونوعت أفراده (العقول العشرة) محيلة لها إلى آلهة تتضافر لقيادة مسار النظام الكوني!
تلك الفكرة المسلمة فلسفيا لاتفتأ تُطل بهامتها بين الفينة والأخرى من ثنايا وقائع المنقول الفلسفي وقد أحكمت قبضتها على الذهنية الفلسفية تلك الفكرة مفادها: «أن العقل في مقابلة الشرع، وأن الدال السمعي يتمثل في مجرد الخبر فحسب، وأن قبوله موقوف على تصديق المخبِر» تلك الفكرة كان لها امتداد لاحق لدى أساطين الحراك الكلامي الذين أُشربوا كُنهها وبالتالي مضوا شوطا نائيا في استلهام أجواء المناخ العقلي الإغريقي والامتياح مما ورّثه من معطيات متصلة بالكوسمولوجيا ولا ريب أنه عندما تهيمن مثل تلك الفكرة على مفاصل الوعي فستنال من دقة أحكامه وستقلل من جمالية لمساته وستربك كافة المعادلات التي تنبعث جراءها كما هو ملاحظ الآن في التوجه الفلسفي الذي احتفى بذلك المسار الفكري المغاير لأحكام الحقيقة التي تقرر أصولها أن المعادل الموضوعي للعقل الشرعي ليس إلا العقل البدعي وذلك بحكم أن الشرعي كوصف يدلف في إطاره كافة المفردات المنسجمة مع الوحي بلونيه: الظاهر والباطن فالعقل إذا كان محكوما بعامة حراكه بقوانين التنزيل فهو ينتمي بالضرورة إلى طائفة الشرعي وابن تيمية بدوره فند حيثيات ذلك التوجه وناهض منطلقاته التي تمتهن نفي ورود الطرق البرهانية في ثنايا المنقول أوفي تضاعيف مفرداته حيث يقول في هذا الصدد:»إن القرآن ضرب الله فيه الأمثال وهي المقاييس العقلية (يقصد كقياس الأولى وهو قياس برهاني في الصميم) التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين كالتوحيد وتصديق الرسل وإمكان المعاد، وإن ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه... وعامة ما يثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتي القرآن بخلاصته ،وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينها لعظم التفاوت»(التسعينية ص273)
إذا تبلور ما سلف فإنه يقودنا إلى الإشارة إلى طبيعة العلاقة الدائرة بين العقول التالية:العقل الشرعي،والعقل الاستدلالي، والعقل البدعي. فالضدية مهيمنة على العقلين: الشرعي والبدعي. ومن جهة أخرى فليس ثمة أدنى موئل-مرجع للعقل الاستدلالي إلا العقل الشرعي لأن الخطأ وارد عليه - أي على العقل الاستدلالي - بشكل أو بآخر فهو قد يذعن لمقدمات لا تتوفر على محددات المصداقية وبالتالي يُقعّد على ضوئها قواعد يتعاطى معها بمنطق تحويلي وبالتالي يجترح تجسيد استلزامات لا تثبت أبدا أمام التحقيق؛ ولذا فالعقل الشرعي الذي يتوافر على المصداقية لا كحالة عابرة بل كوصف ملازم لا ينفك عنه بحال لا يتعاطى بالقبول مع كل ما يحتج به العقل الاستدلالي الذي تتضاعف لا معقولية معقولاته كلما وهن اتصاله بالعقل الشرعي، بينما العقل الاستدلالي كما يقرر ابن تيمية في الدرء «يسلم بكل ما أخبر به العقل الشرعي ودل عليه «( 1-138) إن العقل الشرعي حاكم لسواه، متحكِّم به، بينما العقل الاستدلالي محكوم بسواه، متحكَّم به، فالعقل الاستدلالي لا يُقطع بوحدته إذ ثمة زخم لا يتناهى من العقول، وهو تماما ما يقصده ابن تيمية عندما يقول في الدرء: «فليست العقول شيئا واحدا بيّنا بنفسه»(1-146) وإذا كان ثمة تجمهر-تعدد عقلي فهذا يعني أن الحاجة ملحة لتموضع قاضٍ ينطق بكلمة الفصل ويحسم الحكم بين الفرقاء في نقاط التمفصل، وليس ثمة قاض مؤهل سوى العقل الشرعي بوصفه يملك محددات الترشيح وعلى نحو لا يضاهى في سياقه.
إن العقل الشرعي لا يُدرِج في المطالب الخبرية ما من شأنه مناهضة مكونات مقتضى العقل الاستدلالي.نعم هو- أي العقل الشرعي - يسوق من الأنباء ما يَبْده العقل الاستدلالي ويُحيره لكن لا يسوق ما يُحكم عليه بالاستحالة، وهذا هو عينه بالضبط ما يقصده ابن تيمية عندما قال:» الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول»(1-145) وثمة بون شاسع بين المحالات والمحارات.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة