لقاء خاص بالثقافية
مع الكاتب والمخرج قاسم حول
أول تحقيق ينشر عن الفيلم
باشر السينمائي والكاتب العراقي قاسم حول بتصوير فيلمه الروائي العراقي الجديد ذي الطبيعة الثقافية الذي يحمل عنوان «بغداد خارج بغداد».
وقاسم حول أحد كتاب أعمدة المجلة الثقافية لصحيفة (الجزيرة) منذ عدة سنوات ولا يزال.
هذا الفيلم يأتي تنفيذه لمناسبة تسمية بغداد عاصمة للثقافة العربية لعام 2013 والفيلم هو تجربة غير تقليدية في السينما العربية وربما غير العربية، إذ تصاغ حكاية غربة المثقف من خلال أحداث حقيقية أو متخيلة عاشها مثقفو العراق في حقب من تاريخ العراق قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية. كان السينمائي والكاتب العراقي قاسم حول يريد أن ينتج ويخرج وقبل ذلك يكتب ملحمة الثقافة العراقية عبر التاريخ القديم والحديث في ثلاثة أجزاء، لكنه يقول ما كل ما يتمنى المرء يدركه! فكتب الثلاثية في فيلم روائي واحد يحمل عنوان «بغداد خارج بغداد».
تقول إن فيلم «بغداد خارج بغداد» هو فيلم ذو طبيعة سينمائية خاصة، فما هي تلك الخصوصية وذلك التمايز في السينما؟
- هذا الفيلم لا ينتمي إلى فيلم الحدوتة أي القصة الواحدة والحكاية بمعناها البنيوي التقليدي، فهو حكايات الغربة التي مر بها عدد من المثقفين وتجسدت كثيرا في حياتهم. كنت أريد أن أصور الخوف من النهاية الإنسانية التي أرعبت وترعب الوعي الإنساني، وتأثير تلك النهايات على الحياة الاجتماعية ومسارها.
فكرت كثيرا بالمعالجة وهي المحافظة على ثيمة الفيلم
«الغربة» بمعناها الوجودي وليس الجغرافي. وكتبت السيناريو وعانيت كثيرا حتى باشرت بالتصوير. لقد تأثرت في حياتي الثقافية بنصين أدبيين الأول «ملحمة كلكامش» والثاني «ألف ليلة وليلة» النص الأول يحمل فلسفة الوجود، فلسفة الحياة والموت وصاحب النص غير معروف، لم يعرف من دون هذه الأسطورة الخالدة على ألواح الطين قبل أكثر من سبعة آلاف عام. النص الثاني الذي أثر بي ثقافيا هو نص «ألف ليلة وليلة» ذي الطبيعة الفانتازية التي تعبر عن عبقرية نادرة في الخيال والبناء ضمن مخيلة مزدحمة بالشخوص والأحداث والأمكنة وأيضا النص لا يعرف كاتبه. هذان النصان كنت أحلم بهما سينمائيا. لكنني وأيضا من منطلق الغربة والتغرب والهيام في منافي العالم والتشرد على سواحل البحار، حيث كانت شرطة بيروت تمسك بي وترميني على الحدود السورية حتى منحتني هولندا حقوق الإقامة واللجوء وفق هذا الواقع يصعب علي بلوغ حتى أطراف الحلم المشروع.
اليوم أتيحت لي فرصة البحث في غربة المثقف وهي غربة إنسانية يلتقي فيها كل المثقفين في العالم دوافعها فلسفة الحياة والموت. انتقيت نماذج من حكايات مرت على عدد من المثقفين العراقيين. وعلى العراقيين بشكل عام دون أن يذهبوا بعيدا في البحث عن أسباب الغربة والتوحد والموت في الحياة والحياة في الموت.
«لقد استأثرت الآلهة بالخلود وكتب على البشر الفناء. فيا كلكامش دلل الطفل الذي بين يديك وأسعد زوجتك واجعل ملابسك نظيفة واملأ كرشك بالطعام وافرح ليل نهار.. وهذا هو نصيب البشر فلقد استأثرت الآلهة بالخلود وكتب على البشر الفناء».
هذه هي فكرة فيلمي الروائي الثقافي «بغداد خارج بغداد».
لقد اكتشف كلكامش وهو الذي رأى كل شيء وهو البطل الأسطوري الذي لم يترك عذراء لحبيبها، أحس فجأة بالخوف من الموت بعد أن شاهد صاحبه وخليله أنكيدو ميتا ينخر في جسده الدود. فهرب خائفا من الموت.
لقد استدعيت كلكامش بعد أن صورت معاناته في التاريخ استدعيته حيا في بغداد على هيئة «بلام» يقوم بنقل الناس بين ضفتي دجلة. كما استدعيت «سيدوري» صاحبة الحان كامرأة آتية من مدينة «ذي قار» وهي المدينة السومرية. ليلتقيا في نهر دجلة الحزين وهما يبحثان ثانية فكرة الحياة والموت. ومزجت التاريخ بالمعاصرة. ولشد ما أثارني مشهد الصخر المرمي في بقاع بابل التاريخية وفيه كتابات مسمارية. مرمي على الأرض بإمكان أي شخص أن يحمل معه قطعة من الحجر لا تقدر بثمن. ولقد عمد الناس على استعمال الكثير من الآجر في بناء بيوتهم! فكتبت مشهدا مخيفا عن تلك البقعة من الأرض وسأقوم بتنفيذه ضمن الفيلم، إضافة إلى المشاهد الساحرة الجمال على نهر دجلة.
لماذا على نهر دجلة بالذات؟
- عندما عدت إلى بغداد بعد غياب أكثر من أربعين عاماً وذهبت نحو شارع أبي نؤاس على ضفاف نهر دجلة وجدت النهر، وقد ابتعد عن الساحل أو أبعد عن الساحل وبات الوصول إلى مياهه صعبا. لم أعد قادرا أن أمد يدي وأغرف من مائه وأغسل وجهي من التعب كما كنت أفعل من قبل.
حاولت الاقتراب من الساحل فجاءني صوت من بعيد «ابتعد» وبقي الساحل بعيدا عني. حينها وأنا أدون السيناريو تذكرت الرصافي والزهاوي وهما يعبران النهر في «القفة» التي كانت سائدة منذ العهد السومري وحتى بداية تأسيس الدولة العراقية. فاخترت موقعا من النهر وهو يسري في جسد الأرض العراقية لأصور المشاهد هناك. قمت بتصنيع القفة في أحد المعامل وبدأنا التمارين على القفة مع الممثلين.
كيف تنظر للممثل وللمثل العربي والعراقي في مثل هكذا عمل؟
- في كل أعمالي السينمائية تقريبا ابتعدت عن الممثل الجاهز. فأنا لا أميل إلى النمطية في أداء الممثلين العرب. الممثل العربي شخص يكرر نفسه في كل الأعمال الدرامية حيث لا وقت لتقمص الشخصيات. الممثل العربي هو نفس الشخص في ملابس مختلفة. الممثل العربي يستسهل التمثيل فيما هي مفردة إبداعية صعبة وعسيرة الفهم والاستيعاب. الممثل العربي لا يتقن أبسط مقومات التمثيل. حتى تتقمص الشخصية وتحول شخصية الممثل الأمريكي «سبنسر تراسي» إلى شخصية «الصياد» في الشيخ والبحر عملية ليست سهلة بل هي ليست صعبة فحسب، لكنها عسيرة وتحتاج إلى مبدع حقيقي. لذلك تراني أخاف من التعامل مع الممثل العربي فأجنح إلى ممثلين عشاق لفنهم ولكنهم غير مكثرين أو لم يمثلوا في السينما من قبل لكي أعمل على تدريبهم في بناء الشخصية وبالتالي أدائها سينمائيا. وأحيانا ألجأ إلى أشخاص غير ممثلين كما فعلت في فيلمي «المغني» وكما فعلته في تجربتي هذه «بغداد خارج بغداد» حيث استدعيت امرأة من أهوار العراق امرأة ليست ممثلة بل هي عاشقة غناء، كي تؤدي دور المطربة «مسعودة» التي تحولت إلى رجل مغن يحمل اسم «مسعود» لكي تتمكن من السفر والغناء كرجل لأن المجتمع لم يكن يسمح لها بالغناء كامرأة. وهذه غربة ثقافية خطيرة في تناولي لغربة المثقف. نعم جلبت امرأة شعبية وأقنعتها أن تلعب دور مسعودة وهذه المرأة الريفية تتمتع بصوت شجي في الغناء يقترب من صوت مسعودة أو مسعود الذي عرف باسم مسعود عمارتلي. دائماً أنا هكذا أبحث عن ممثلين غير نمطيين وأعلمهم فن التمثيل وأنا أيضا ممثل وسألعب دوراً في هذا الفيلم قد يستغرق خمس دقائق ولكنها دقائق مهمة في مفهوم غربة المثقف.
هل السينما العربية بخير؟
- كلا ليست بخير. السينما العربية ليست بخير، وما كانت يوما بخير. ودعني أفسر ذلك بوضوح تام. السينما التي أعنيها هي ليست الأفلام التي نشاهدها لا عالميا ولا عربيا ولا إقليميا.
بدايات السينما كانت بدايات صحيحة، وقد برزت منها أفلام ما يطلق عليه «أفلام المجتمع الأمريكي»، حيث تمكنت السينما حينها من إنتاج عدد من الأفلام الاجتماعية الأمريكية التي تناولت حياة الطبقة البورجوازية وأحيانا المتوسطة. وكانت تلك الأعمال مأخوذة من روايات أمريكية تألقت في الحياة الأدبية وبحثت في المجتمع الأمريكي كثيراً فتلقفتها شركات إنتاج عملاقة وتألقت في تحويلها إلى نصوص سينمائية، ومن ثم إلى أفلام. هذه حقبة مهمة من تاريخ السينما الأمريكية. وهذه سينما استخدمت مفردات لغة التعبير السينمائية بشكل فني وعبقري يدعم ذلك إنتاج مدرك للعملية الإنتاجية السينمائية عبر شركات إنتاج عملاقة مثل مترو جولدين ماير ويونايتد أرتست وكولومبيا وفوكس القرن العشرين وبارامونت وغيرها من الشركات المتألقة إنتاجيا. هذه حقبة سينمائية حققت كما ونوعا من الأفلام المهمة في تاريخ السينما العالمية. جاءت بعدها موجة السينما الواقعية والواقعية الجديدة في إيطاليا فأنتجت أفلاما مهمة ذات قيم فلسفية وجمالية وهي أعمال فلليني وبازوليني وفرانشيسكو روزي وانطونيوني. وكانت سينما مهمة هي الأخرى لها هوية متميزة ومتطورة. في الاتحاد السوفياتي السابق برزت سينما عملاقة مأخوذة من الروايات الفذة للكتاب الروس تشيخوف وغوركي وتورجنيف وديستويفسكي، ولكن إلى جانب هذه الأعمال العملاقة ظهرت سينما إعلانية ساذجة ذات نكهة شيوعية أساءت للسينما الروسية وللسينما بشكل عام وهي سينما ذات طابع استهلاكيأيديولوجي مثلها مثل السينما الهندية التجارية بل حتى الأفلام الهندية التجارية تتمتع بجانب تقني وجمالي غير متوفر في الفيلم الروسي المؤدلج.
وظهرت أفلام وليس سينما في بلدان اشتراكية وغير اشتراكية وهي استثناءات وليست قاعدة مثل أفلام فايدا في بولندا وأفلام بيرجمان في السويد. في فرنسا ظهرت موجة متميزة من الأفلام تميزت في مستواها الفني والجمالي والفكري أيضا مثل أفلام ألان رينيه ولوي مال وجودار وكلود للوش. ولو نظرنا إلى السينما العربية ضمن هذا الواقع لشاهدنا سينما غريبة لا هوية لها ولا إيقاع متناغم مع إيقاع الحياة. السينما العربية تمثلت بداية بالسينما المصرية. الناس والنقاد ينظرون لهذه السينما نظرة الامتنان ولكن في حقيقة الأمر أن السينما المصرية كانت تستدعي أفلاما أمريكية وأحيانا غير أمريكية وتفصلها نصا على شخوص عربية وأزياء عربية ولهجة مصرية فتأتي السينما المصرية مثل الغراب الذي حاول أن يقلد الحمامة في مشيتها فضيع المشيتين. يوجد كتاب مصري مهم يوضح عدد الأفلام الكبير المستنسخ عن أفلام أمريكية وغير أمريكية. مستنسخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
إلى ماذا تعزو ضعف السينما العربية؟
- غياب النص السينمائي وغياب المنتج وغياب الاستقرار!
نسمع اليوم عن أعمال سينمائية كثيرة وأسماء سينمائية كثيرة فما هي حقيقة ما يجري على الساحة السينمائية الثقافية؟
- إنتاج الأفلام وظهور الأفلام على شاشات السينما وفي المهرجانات لا يعني وجود سينما في هذا البلد أو ذاك. السينما الوطنية لا تتحقق سوى ببناء القاعدة المادية للإنتاج السينمائي. والقاعدة المادية للإنتاج السينمائي تتمثل في تأسيس مدن السينما وفي توفير التقنية السينمائية وتوفير المعدات اللازمة للإنتاج السينمائي وفي وجود شبكة توزيع محلية وعالمية، وفي وجود قانون للسينما يدعم العمل السينمائي، قانون واضح ومتقدم ذهنيا وحضاريا، وبناء سينماتيك ومكتبة أرشيفية وتأسيس معاهد علمية لتدريس الفن السابع. بهذه الأسس يتم بناء أية سينما وطنية في أي بلد. شرط ألا تقوم الدولة بإنتاج الأفلام السينمائية بل تقوم بدعم السينما وتوفير شروط الإنتاج مع توفر شرط حرية التعبير المسؤولة. وأضع كلمة المسؤولة بين هلالين. لأن الواقع العربي والواقع الإسلامي يفرض هذه المسؤولية ولكن برؤية حضارية متطورة.
وكيف تقرأ واقع السينما العربية ضمن الأوضاع والتحولات السياسية السائدة اليوم؟
- هذا سؤال مهم، من بين ركام السينما العربية وأكداس الأفلام التي كان الكثير منها يستهوي عامة الجمهور وهي أفلام قائمة على التهريج الرخيص والنكتة البايخة المحلية ظهرت محاولات جادة كانت تبشر بسينما عربية سواء في المشرق العربي أو المغرب العربي ولكن الأحداث الدرامية التي حصلت في المنطقة والتحولات السياسية التي جرت من بين ركام الدكتاتوريات واتجهت نحو أيديولوجيات سلفية متعنتة أطاحت ببقايا الحلم الجميل للثقافة السينمائية. أصبح الواقع صعبا.. صعبا بشكل حقيقي وكبير والنهوض لم يعد سهلا. في مثل هكذا حقب قد تظهر أفلام، فيلم هنا وفيلم هناك، ولكن أن تتأسس هوية سينمائية وثقافة سينمائية فهو أمر صعب للغاية. دعونا نتمتع بفلتات سينمائية تعبد لنا الروح الثقافية المفقودة. الفن والجمال أمران ليسا سهلين. أضرب مثالا واحدا. لقد شاهدت الممثلة المصرية نادية لطفي في أفلام كثيرة، فلم تثر انتباهي كممثلة مثلها مثل غيرها من الممثلات العربيات ولكني شاهدتها لمدة أقل من ثلاثين ثانية في فيلم المومياء لشادي عبدالسلام هي تمشي بين الآثار ثم تلتفت. في تلك الثواني سحرتني ولا أستطيع نسيان أدائها. القيمة الفنية ليست كثرة وليست شهرة. الشهرة سهلة. الصعب هو الإبداع.
أخيرا أقول إن اليد الفقيرة لا تقوى على حمل الكاميرا السينمائية. الكاميرا السينمائية تحتاج إلى يد ذهبية كي تحملها وتتحمل مسؤوليتها.
هل تنظر إلى تجربتك الحالية «بغداد خارج بغداد» بعين الرضا والتفاؤل؟
- يصعب التكهن وتصعب المراهنة فالسينما وخاصة في عالمنا الثالث أو العاشر لا أدري، السينما تحكمها ظروف إنتاجية وموضوعية. أنا مثلا أعمل في تصوير مشاهد وأطلقت علينا نيران من مناطق لا نعرف مصدرها خمس مرات كما تفجير المطعم الذي نتناول فيه وجبات الطعام ولم نكن هناك بطريق الصدفة. هذا جانب أمني وهناك جانب تقني، التقنية السليمة غائبة وعلي أن أنقل نتائج تصويري خارج العراق. نظام الصوت في العالم العربي غير علمي، ففي وقت يظهر فيه مصممو الصوت في العالم يغيب في العالم العربي مسجل الصوت الحرفي. والصوت في السينما مهم جدا عندي لا يقل أهمية عن الصورة، بل إن تأثيره على المتلقي حساس، فنحن نسمع بدرجة 360 ونرى بدرجة 180، والصوت يأتينا من كل مكان ويؤثر فينا وأصوات الحياة وأصوات الممثلين عنصر مهم من عناصر مفردات لغة التعبير السينمائية. هذه الحالة تجعل المبدع في حالة قلق دائم. والسينما بناء مستمر حتى لحظة اللقاء مع المتلقي على الشاشة. دعنا نتفاءل وما حققته حتى الآن أنا مرتاح منه تقنيا والأهم جماليا. وقد شاهدت نتائج عملي ما يدعوني ذلك للتفاؤل ولكن شروط التفاؤل ليست قليلة. آمل أن أعبر عن حلمي في رؤية غربة المثقف في وطني وغربة المثقف بشكل عام في فيلم «بغداد خارج بغداد» وهي أول تجربة روائية ذات بعد ثقافي كامل.
***
أهم عناصر الفيلم خارج بغداد
المخرج والكاتب: قاسم حول.
مساعدا الإخراج: كاظم الصبر، حيدر محمد محمود.
مدير الإنتاج: نزار السامرائي.
مدير التصوير: شكيب رشيد.
المصور: أمين مجيد.
الصوت: حيدر كاظم حسين.
العمليات الفنية: ستوديو حكمت.
الممثلون:
رشا الكناني، فلاح محسن، عبدالمطلب السنيد، نزاز السامرائي، رنين، رعد رشيد، علي عادل، مجيد عبدالواحد، هند طالب، قاسم حول، علي العبيدي، جمال الشاطئ، مؤيد أبو جود، كاظم الصبر، حيدر محمود، علي طالب، ليلى مجيد.