يستهل الشاعر أحمد الصالح (مسافر) ديوانه الجديد «تشرقين في سماء القلب» بإيماء وصفي حالم يسترعي حالة القلب المثقل بلواعج الحياة، ومعاناة الذات من فرط هموم تكابدها هذه الأيام، لنكتشف في المصافحة الأولى مع الشاعر وقصائده أنه عني بترتيب تحية الاستهلال ـ القصيدة الأولى ـ «سامحيني» حينما استدرك ذاكرة الجمال والبهاء الفطري:
«يا شميم الريف!!
كم تهمي أناشيدك في سمعي
حقولا.. وسنابل.
مثلما يأتي الندى
تأتي أحاديثك
تفتض سكون الليل..»
ففي القصيدة بعد تأثيري عميق يستدعي الشاعر من خلاله ما خلا من أيام ومناسبات كان يرى فيها الشعر هو الحافز والمحرض على الجمال، أما اليوم فبات جزءا من وصف الحقيقة، ومترجما للكثير من الآلام والنوازل، إلا أن الشاعر لم يعدم فرصة الفأل ومد جسور الأمل في هذه القصيدة التي ظل فيها وفيا للأمل وأحلام الجمال والرقة رغم ألم المعاناة التي تسكنه منذ اكتوى بنار الشعر ووهج الحقائق الكبرى.. تلك التي برع الشاعر «مسافر» في تضمينها في الكثير من قصائده في هذا الديوان ودواوين أخرى.
يسعى الشاعر في هذا الديوان إلى أن يسجل موقف الوعي وجدل الحقيقة حينما يرى انه معني باستحضار الحالة العربية والإسلامية السابقة ليقارنها بما سواها من حالات معاصرة تثير الشجن فعلا.. لينظم لنا «مسافر» أطرافا من شجن الماضي في قصيدته المعنونة بـ «من أين يكون البدء» بل لا يتورع في قصيدة تالية من أن يتكئ على ما مضى من سانحات الجمال والطيبة والرقة ليجعلها محض تصور ومقارنة مع هذا الواقع الذي يعيشه الشاعر.
يبدع الشاعر في رسم تفاصيل الحياة البسيطة التي باتت تفقد رونقها وجمالها وبعدها الإنساني البريء، فلم تعد مع الشاعر سوى القصيدة الجميلة، عله يقاوم موجات الغياب والرحيل وغبار الزمن المتناقض والمغموس في ماء التحول والتبدل وغياب الهاجس الوجداني الجميل:
«سيدتي..
لولا الحزن
ولولا هول المأساة
لما أورق هذا الهاجس
شعرا
ولما أينع صمت الشعر..»
فالقصيدة هنا تتلو مقاطع الفاجعة في زمن لم يعد للشاعر فيه سوى كتابة رسائل شعرية ملؤها اللوعة، ومعمارها البكاء على وجه زمن بعيد هده عناء النسيان.. وما عنوان هذه القصيدة إلا حالة من استفهام فائق الدلالة حينما يرسم الصالح مفتاح قصيدته (كيف يغني الشاعر..؟!) دون أن يترك للقارئ إشارة مهمة في علامة الاستفهام والتعجب، حيث يدرك القارئ أن الشاعر في حالة ما من مناجزة دائمة مع الواقع وعدم مواءمة أو التصالح ممكن معه.
لم يعد بالإمكان لشاعر رقيق وجميل أن يساوم على عاطفته بهذا الهياج المادي المفرط في غربته وصخبه ومعاناة أهله، فهو المليء بالوجد، والمعبأ بالحيرة من عناء (زمن اللا شعر).. فلم يعد للكلمة رونقها رغم ما سعى إليه صاحب الديوان من محاولات جادة لبناء ثقافة جديدة تتناول الحب والجمال، وتعيد رسم تفاصيل ما تبقى من حكايات مورقة في عتقها وبراءاتها التي توشك على الهرب كخيوط دخان.
يسلمنا الشاعر الصالح في تفاصيل حكايته الجمالية إلى أن «لزمة» التاريخ لا تزال حية ومورقة في الوجدان، فلا بد لنا من نتفاعل مع حالة القراءة.. أي أن نُعمل الخيال في رسم تفاصيل خفية في مسافات البوح الوجداني بين سطور الحياة الممتدة بين عالمين هما الحقيقة والخيال، فالقصيدة التي تراوح بين هذين العالمين، لا بد لها أن تكون محملة بوعي المرحلة ومعجونة بتفاصيل الواقع الذي تداخلت فيه المفاهيم فلم يعد يميز أحدا بين حقيقة وخيال ليجد الشاعر ضالته هنا:
«أوحشتني الأرض التي كنت فيها
بيت شعر أو سورة من بيان
أوحشتني من بعد ما دللتني
ولقد كان في هواها افتتاني»
اللافت في قصائد هذا الديوان للشاعر «مسافر» أنها ذيلت بتواريخ تراوح في ماض عميق.. بين عقدين وثلاثة عقود، مما يؤكد على أن لدى الشاعر مخزونا لا بأس به من القصائد وما اختاره منها هو مقارب لواقع الحياة اليوم، وكأنه يستشعر حقيقة ما نحن فيه من زمن تحول وتبدل، لا بد للشاعر أن يقف عليه ويكاشفه في أدق التفاصيل.
***
إشارة:
- «تشرقين في سماء القلب» (شعر)
- أحمد صالح الصالح (مسافر)
- من إصدارات نادي المدينة المنورة الأدبي
- (ط1) 1434هـ ـ 2013م
- يقع الديوان في نحو 118صفحة من القطع المتوسط