الإنسان خلق من جماعة، وينتمي إلى جماعة، وفي حديثه يعبر عن الجماعة، والجماعة تعبر عنه، سلباً أو إيجاباً؛ لذلك فهو أسير لنظرة هذه الجماعة، فهي التي تقومه، وترفعه، وتخفضه، وتتحكم في كل شئونه العامة والخاصة، وكلما اقترب من المحافظة زادت درجة قوة تحكم الموروث الجمعي في حياة الفرد، وفي مجتمع كالمملكة العربية السعودية شديد المحافظة، بين دينية وقبيلية تنظر إلى الأعلى دائماً بما ترى أنه من تراثها وتفاخرها بين القبائل الأخرى، تصبح أحكام هذه الفئات( المذهبية والقبيلية) شديدة القوة على الفرد، وخاصة المرأة، ولا ننسى الجملة التي يرددها رجال القبيلة عن المرأة( المرأة من شعر اللحاء) وذلك يعود إلى حساسية وضع المرأة الذي تحكمه العادات والتقاليد، بشكل قد يتجاوز حدود الدين وما ورد فيه من أحكام، بل إن بعضهم يتهاون في الفروض والواجبات والأحكام الدينية، ولا يتهاون في العرف القبيلي، ويرفض قوانين الدولة الشرعية، في الأحكام الشرعية الثابتة، ويرضى بما تحكم به القبيلة. وقد استغل هذه الجزئيات القبيلية، بعض الذين يدعون إلى تطبيق شرعي من منظورهم، وليس من منظور الكتاب والسنة، أو الأعراف القبيلية الإيجابية، التي تعتمد في أساسها على مكارم الأخلاق التي أقرها النبي محمد (ص)، وأخذوا منها ما يناسب توجهاتهم المستوردة من شرائع ليست في الدين من شيء، ولا في عادات العرب، ومن هذه الثنائية حصل للتنمية عرقلة سببت الشلل لجسم هذا المجتمع في نصفه الآخر( المرأة) وجعلت بعض المستلسنين يتهمهن بالخروج على العقيدة من وجهة نظره، وليس من وجهة نظر العقيدة الإسلامية السمحة، وصار يقذفهن على المنابر بأقذع الألفاظ والتهم المخلة بالشرف على مسمع ومرأى، كما يقول عوض القرني في خطبه التي فرغها من الأشرطة إلى كتيب سقيم.
وإذا أردنا أن نتحدث عن دور المرأة في التنمية التي انفجرت مصادرها بسرعة هائلة لم يلحق بها الرجل دون المرأة، فإن الحديث عن المرأة التي يرى هذا التيار المضاد لها أنها مشكلة، فإننا نرى عكس ذلك، بل هذا حل وليست مشكلة، هي حل لهذا التسارع في المعلومات والتطورات الهائلة في عالم المعرفة، وهي حل لإنتاج المعرفة، التي عجز كثير من الرجال في إنتاجها، واكتفوا بتقديمها مجردة.
وقد شهدت المملكة نهضة تنموية هائلة في العشرين سنة الماضية، في جميع المجالات، اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وصحية؛ ولم تكن مقصورة على جزء من أجزائها المتعددة، وأطرافها المترامية، وإن كانت متركزة أكثر في المراكز الكبرى، لكن يقف السؤال الملح والمهم، هل كانت مساهمة المرأة في هذه التنمية المواكبة للانفجار السكاني الكبير مناسبة؟؟. وبالرغم من بساطة الجواب على مثل هذا التساؤل، إلا أن التفصيل فيه من العسير، فإن نظرنا إلى مواكبة العالم الآخر، سنجد أن الجواب سيكون(لا)، وإن نظرنا إلى ما قدمنا به قبل قليل، فإنها مساهمة لا يستهان بها مقارنة بمساهمة الرجل، متحدية الظروف المصطنعة التي مر ذكرها، وخاصة في المجلين: العلمي، والأدبي، وعدم منح الأقاليم المتعددة الثقافات فرصتها في ممارسة ثقافتها الخاصة.
ومن المعلوم أن التنمية، بكل أبعادها التي ذكرناها، تقوم على العنصر البشري بالدرجة الأولى، وإذا كانت منطقة الخليج العربية قادرة على استيراد الآلة، فإنها تشكو من وجود الإنسان المدرب على هذه الآلة، ولذا اضطرت إلى تلبية احتياجات التنمية من العنصر البشري المؤهل تأهيلا كافياً، فاضطرت إلى استقدام العمالة الوافدة للقيام بعملية التنمية، وكان من المفترض أن تكون هذه الأعداد الكبيرة التي تبلغ الملايين من الجنسية الواحدة، وأغلبها شرق آسيوية، أن تكون إلى حين يتدرب أبناء البلد على القيام بما تحتمه الظروف التنموية عليهم، كما حصل في الشركات الكبيرة العالمية والوطنية، مثل أرامكو، والبنوك، وسابك، والكهرباء، وغيرها، إلا أن هذه الأفواج في ازدياد، حتى في أقل الأعمال كفاءة، فدبت البطالة في الشباب، من الجنسين، ولم يجدوا لهم مجالاً في التنمية والتدرب على وسائلها الحديثة، في وجود العمالة الرديئة غير المدربة، التي تتعلم في مقدرات التنمية الحقيقية، بل إن سلبياتها ظهرت في كثير من أفراد المجتمع، في اللغة والثقافة، والسلوك. وفي غياب المرأة عن المساهمة في التنمية حصلت زيادة في العمالة يوماً بعد يوم، وأصبحت العمالة النسوية تزاحم العمالة الرجالية، في المشاغل النسائية وصوالين التجميل والتمريض...وغيرها. والسبب في ازداد الشلل في أعضاء المجتمع ابتعاد المرأة مكرهة عن المساهمة في التنمية، بحكم ما ذكرناه قبل قليل من فعل الثنائي المستفيد بعض أعضائه، والخاسر بعضهم، لكنه يكابر حماية لمعتقديه الثقافيين: الموروث والطارئ. ويظهر أمامنا سؤال ملح يبحث عن إجابة، هل التحدي الذي تواجهه المرأة سيغير بعض العادات التي اعتادها المجتمع في العشرين سنة الماضية، ويصحح بعض الأوضاع التي تصطدم بالعقل؟!
قبل الجواب عن هذا السؤال، دعونا نذكر بعض المتناقضات التي ابتدعها الفكر الجهيماني وأتباعه، حيث كانت المرأة تبيع وتشتري وتكفي نفسها وأسرتها ذل السؤال والحاجة، والآن تمنع من البيع والشراء وممارسة التجارة، ويسمح للرجل ببيع أدوات لنساء الخاصة من الملابس الداخلية وأدوات الزينة، ولم نجد بلداً في العالم يبيع الرجل فيه حاجات النساء غير النساء!!، أليست هذه مناقضة لما يدعون له!!.أما أن التحدي يغير بعض العادات الطارئة والتي لم يأمر بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، أو العادات التي لا تدعو إلى مفسدة شرعية بالدليل الشرعي، سواء من الكتاب أو السنة أو منهما معاً، ومع ذلك، فقد أوجدت المرأة لها مكاناً تتحدى به هذه الأفعال غير المنطقية، وكان لها ذلك في مجال التنمية الثقافية، من سرد وشعر، ونقد وأبحاث علمية ونظرية، سنتناول منها التنمية التعليمية، والإبداعية الثقافية، والإبداعية العلمية. وما يزال للحديث بقية في الحلقة القادمة.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض