إذن ليس ثمة مناص أمامنا للخروج من سياج الدوغمائية الأرثوذكسية وفق صياغات الراحل، ما دام العقل العربي يعيش دون مستوى فهم وتقدير المشروع الفكري للراحل الدكتور محمد أركون، وذلك حسب الرؤية التقريظية التكريسية التي ينتجها مترجمه إلى العربية (د. هاشم صالح)، حيث يتعارض مبدأ التقديس والتكريس مع رجل كان مشروعه تفكيكا استراتيجيا لكل نزوع نحو التكريس والتقديس... تلك هي المصائر العقلية التي يريد أنصار الراحل أن يضعوا المشروع الأركوني أمام تحدياتها وفق القراءة التمجيدية التعظيمية التكريسية لمريديه، وذلك من خلال نموذج مترجمه الذي أراد أن يقدمه ويشرحه للقارىء العربي فجعل منه لغزا يتحدى ذكاء القارىء ويصكه بالقصور عن ممكنات فهم ما تفرد هو بفهمه لشيخه الحداثي المستقبلي محمد أركون رحمه الله!!!
وهو في هذا السياق التمجيدي لا ينسى أن يورد لنا الطرائف عن سذاجة بعض الذين لم يبلغوا نباهته باكتشاف الظاهرة الأركونية السابقة لعصرها...
فيورد لنا (نكتة) وفق تعبيره، مظهرا الإشفاق والسخرية على عجزنا من عدم القدرة على التساوق مع مستوى «أركون الكبير والمقتدر» رغم أنه ليس معجزة كما كان قد يتبادر إلى أذهاننا القاصرة!!! حيث كنا عنصرا عامليا في مصفوفة عوامل تشكل حكاية سرد (النكتة) وفق خطاب السرديات التي كنا ننهلها في المحيط الأكاديمي السوربوني الأركوني، إذ كنت أختلف إلى حلقات بحثه رغم شغلي في حقل السرديات، هذا الحقل الذي كان الراحل -رحمه الله - يناصبه العداء عبر التعامل معه باستخفاف، رغم أن علوم السرديات كان يشتغل عليها زملاؤه في القسم الذي آلت رئاسته له في مجرى تلك السنوات، يستخف بالدراسات الأدبية لأنه يعتبرها علوما خفيفة، لا تهتم بالكليات العقلية، ولشد ما كان يعبر عن غضبه نحو أبناء موطنه الجزائريين الذين يتجاهلون علومه (التحريرية للعقل) ويسجلون على أطروحات الماجستير والدكتوراه في علوم السرديات (الخفيفة)، ويضيف متهكما بجملة طريفة صارت شهيرة (كلكم ستدرسون السرديات الروائية وأنتم ليس لديكم سوى روائي واحد هو الطاهر وطار)، وكنا نتناقل هذه الطرفة (النكتة) نحن زملاء الأخ المترجم المقرظ الظافر باكتشاف أركون في التلمذة على أركون... وقد رويت هذه الطرفة للراحل الطاهر وطار خلال إحدى زياراتي للجزائر، فعقب بطرفة مضادة...أليس الأولى الاهتمام بإنتاجي الروائي بوصفي وحيدا... من الاهتمام بعلومه التراثية التي ملأت العالم العربي بالفقهاء!!!
لكن الواقعة (النكتة) التي يرويها لنا مترجمه وراويته: تتلخص في أنه كان يريد حضور درس أركون الأسبوعي، فداعبناه مازحين، ونحن نعرف شدة إعجابه وحماسه، فاقترحنا عليه ناصحين له بعدم الذهاب... وذلك لأنه - في رأينا - ليس ثمة جديد لدى أركون... لكن صديقنا المتخصص بترجمة أركون يستحضر الواقعة منذ أكثر من ثلاثين سنة، معتبراً أن موقفنا كان من موضوع الدرس (الدين) وليس من منهجية صاحب الدرس وكيفية مقاربته للمسألة الدينية، حيث يفسر الأمر بأن موقفنا كان نتاج توهمنا بأنا تجاوزنا المسألة الدينية حسب ما يروي على لساننا:» نحن،المثقفين العرب، تجاوزنا هذه القضايا»، في حين أن كنا نقصد أننا تجاوزنا المدرسية الأركونية في بداياتها الفيلولوجية إلى بداية تحسسنا ل(التاريخانية) التي كانت قد أشاعتها الماركسية سياسيا قبل مرحلة الانهيار الكبير للمعسكر الاشتراكي...، حيث كنا في ذروة راديكالية الشباب، حيث كنا ننطوي على نزعة يسارية راديكالية شابة وحادة مما كان يضعنا في صدام دائم مع الراحل الذي كنا ننظر له كيميني متطرف في عدائيته لليسار من موقعه الرسمي في الإشراف على مؤسسة جامعية تليدة كالسوربون (باريس 3)، بعد أن أصبح - حينها - في بداية الثمانينات - فيما أذكر - رئيسا لقسم الدراسات الإسلامية في الجامعة.
باريس