مع انفعالات وغضب وثوران هذه الثورات العربية شئت ما شاءت هنا وهناك ضد حكامها والزعماء. وقرأت ما قرأت، وسمعت ما سمعت، وشاهدت ما شاهدت. من كل أنواع..(النفاق السياسي).. و.. (الرياء).. و..(المداهنة).. و.. (الكذب).. و.. (شتى أنواع الادعاءات).. تذكرت أبيات الشاعر العربي الكبير أبن هاني الأندلسي الذي قال:
ما شئت ما لا شاءت الأقدار
فأحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به
في كتبها الأحبار والأخبار
واليوم أرغب أن أطرح بعض التساؤلات على المثقف العربي الذي عاصر هذه الثورات العربية، وكذلك كان جزءاً مهماً أو غير مهماً منها. وأيضاً هو عاش في أروقة ودهاليز السياسة، ومكاتب أهل الحكم والسلطة، وأكل على كل الموائد السلطوية وتغنى بالحاكم أو الرئيس أو الزعيم. وقرأت بنفسي أن بعض المثقفين المصريين السلطويين كتبوا ومدحوا الرئيس المصري محمد حسني مبارك، فبعضهم وصفه بأنه..(الهرم الرابع).. وبعد ثورة 25 يناير وصفه بالرئيس الخائن. وآخر وصفه بأنه..(خوفو).. الذي بني مصر الحديثة، وبعد الثورة قال عنه إنه.. (الرئيس الفاسد)..،. وثالث قال عنه: إنه.. (رميس).. وبعد الثورة وصفه بأنه..(الرئيس العميل)..،.
وبعد هذه المهازلة الثقافية والصحافية من المثقف العربي، كيف نريد من المواطن العربي أن يثق في المثقف العربي والمتقلب المزاج، والمنافق المزاج، والكذاب في المواقف، والمداهن للقوي، والمرائي. هل الشعر العربي النفاقي يخدم في المرحلة القادمة؟.
وهل الصحافة النفاقية تخدم في المرحلة القادمة؟.
وهل الإعلام النفاقي والكذاب والمداهن سوف يخدم قضايا الأمة العربية؟.
وهل الأمة العربية تحتاج إلى.. (ثقافة النفاق).. و..(ثقافة الكذب).. و.. (ثقافة المداهنة).. و.. (ثقافة الرياء)..،.
النص الشعري، والنص الثقافي، والنص الصحافي، والنص الإعلامي، وغيرها تؤكد أن المثقف العربي لم يتغير، ولن يتغير، لأنه تربى، وترعرع، ونشأ، وتطور، وخدم وتعلم، وتثقف، وتوظف على.. (ثقافة النفاق)..،. فالطبع يغلب التطبع.
وخلف هذه الثقافة النفاقية والمداهنة ألف مصلحة، ومصلحة للمثقف العربي لأنه يريد أن يبقى ليكون جزء حيوي من اللعبة السياسية والصحافية القادمة.
إن ممارسة الثقافة النفاقية السياسية والصحافية بفكر ملائكي أصبحت مكشوفة في الشارع العربي، ولكن المؤسف أن الشارع العربي يقبل بها ويحسن التعامل معها، بل إنه يصدق كل تلك الشعارات النفاقية ويأخذها على ظاهرها. وكأنه لم يفق من نومه بسبب عويلها المزعج. اليوم، لا بد لنا من صياغة ووضع تحليل ما حصل، وما يحصل، وما سيحصل مستقبلا بناء على قواعد وأخلاق ومعايير سياسية نظيفة، وقيم وشروط وأخلاق صحافية ناضجة وسليمة من الشوائب والمعايير المضجعة التي تخلق وتنمى النفاق والمنافقين. في أروقة الصحافة ودهاليز الإعلام.
لا أحد يلومني على إصابتي بالقلق من وضع المثقف اليوم ودوره المتقلب المزاج بعد هذه الثورات العربية.
أزعم أننا سنحتاج إلى كثير من الوقت، وإلى كثير من الأمل، وإلى كثير من الصبر، وإلى إرادة سياسية نظيفة تكشف حالات النفاق والمنافقين من المثقفين، وتكون علمياتها متواصلة ومستدامة، بما يتفق مع السياق الزمني. ويفترض على تلك الإرادة السياسية أن تعمل بجدية واهتمام على كشف شبكة النفاق والمنافقين وتوزيعاتهم المتشعبة هنا وهناك، لأنها توزع حسب المصالح والغايات.
قرأت مقالات واستمعت إلى أحاديث حوارية متلفزة عشت بعدها حالة متقدمة من ..((الغيثان)).. بسبب سيطرة النفاق الذي لم أسمع مثله من قبل، فأقراها فتحزنني تلك المقالات والحوارات.
أعيش قناعة راسخة أن المرحلة القادمة ستكون حبلى بخيبات نفسية وجنيات نفاقية لم نسمع بها من قبل.
الشارع العربي يعيش ظروف التغيير، والأمة لحظات الأمل، وأصحاب الفكر والرأي والقلم تقع عليهم مسؤوليات ضخمة لتهيئة الأمة على الحقائق، لا غيرها. وأعرف جيداً أن الشارع العربي يشعر بقلق واضح، وخيبة أمل من خذلان المثقف لكثرة نفاقه وكذبه ومداهنته للسلطان والسلطة.
إن الشعوب اليوم قادرة على إحداث تغييرات جوهرية، فغيرت الحكام، وتغيرت أنظمة، وسقطت مؤسسات حكم بكامله. ولكن للأسف الشديد لم تستطع حتى الآن ..(تغيير المثقف)..،. وإجباره على تغير نفسه وسلوكياته وثقافته ومواقفه المتغير حسب تغيير الزمان والمكان والمصلحة. فإن لم تفعل الشعوب هذا، وتقوم بتنفيذ هذا العمل المهم في حياتها. فهذا يعني شيء واحد أنها غير قادرة على تغيير المثقف. الذي يرصد حركة التاريخ ويضع في ذاكرة التاريخ ما يشاء من كذب ونفاق ورياء ومداهنة لتغيير الحقائق وطمسها. وتقع المصيبة علينا عندما تكتشف وتعرف الأجيال القادمة أننا كذابون ومزيفون للتاريخ وأحداثه. وهذا يجعلهم يفقدوا فينا المصداقية، ولن يتقوا قيما فلنا وكتبنا.
من ضمن فعاليات الثورات العربية الكثير من السلوكيات والصفات المرفوضة من المثقف فشاهدنا وقرأنا معاني التعالي والغرور، وحب العظمة. والمجاملات والتعاطف المغشوش للتأكيد. وأصبح لكثير من المثقفين النافذين والفاعلين أذرعة مهمة، ولها إشارات وإيحاءات غربية، وطبقوا المثل الأموي الشهير الذي وضعه سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: ((من ليس معي فهو ضدي)). فكل من اختلف مع فكر ثورة 25 يناير اعتبر ..((خائن))..، دفعة واحدة، فعلوا ذلك بسبب..(الشخصية النارية).. المصرية. قاثار ذلك الفكر الاستبدادي الدكتاتوري الكثير من المشاكسات والانفعالات وحالة الغضب والتواتر بين شرائح المجتمع.
لقد تحكمت في المثقف الدواخل النفسية المريضة، لأنه كان يصر على تطبيق أجندته فقط، دون السماح للآخر بعرض مفردات أجندته. ما ينعكس سلباً. على العلاقات المجتمعية. وأثناء تلك الفعاليات والمداخلات فقدت كل أنواع اللياقات الأخلاقية. كرغبة كل مثقف أن يستأنس لوحده بالأضواء في الساحة. فكان كل ذلك إهانة للمثقف. وعجز بعضهم وأعنى المثقفين أن يحققوا الحد الأدنى من طموحاتهم.
في هذه المرحلة شاهدنا وسمعنا وقرأنا الكثير من أساليب القمع والاستبداد والنفاق السياسي والصحافي والإعلامي. وسئمت الناس من خطاب..(الغرور).. و.. (التكبر)..
و.. (الاستعلاء)..،.الذي مارسه إعلام الثورات الجديدة. بل إن بعض المثقفين المشهورين منهم، والمغمورين أطلقوا الكثير من قدراتهم المكنونة والمكبوتة والحزينة والمحرومة، لأنها أرادت أن تستعيد دورها ومكانتها في الفعل السياسي والإعلامي الجديد.
لقد أصبح المثقف وخاصة الصحافي والكاتب والإعلامي مركز قوة في فعاليات هذه الثورات. ومارس ضغوطاته المختلفة لكي تتم الاستجابات لمطالبه وأفكاره. إنه نوع من أنواع استهلاك واستغلال الفرص المتاحة أمامه. والتي ظن بعضهم أنها استحقاقات ضرورية. وقناعة كثير هم مما كانوا ضمن حزمة الأنظمة السابقة، ففعلوا ما فعلوا لقناعتهم أن تلك الأنظمة فقدت قدرتها الذاتية على الاستمرار فكتبوا ووضعوا الكثير من الانتقادات الساخنة والسخيفة وغير اللائقة لتلك الأنظمة. وكل أنواع إدارتها بل إنهم رفضوا أن يكتبوا أي كلمة تعاطف، بل توجسوا حيال تلك الأنظمة. وفي المقابل كتبوا للثورات الجديدة مديح الاستقرار واضطرت الناس في نهاية الأمر إلى التوقع في القلق على الأوضاع كما أكد الكثير من المثقفين العرب في أزمة هذه الثورات إنهم قصيرو النظر، وبعيدون عن الواقع. لقد أكدت الكثير من حالات المثقفين أنها تفضل..(الدكتاتوريات المستقرة).. بل إنها راهنت على استقرارها بسبب ديكتاتورية نظام. وهذا في ظني أن..(قابلية العربي).. غير خصبة للديمقراطية والحرية. فقد عرف عنه منذ أزل التاريخ أنه إنسان يستسلم كلياً لأنظمة القمع والتسلط والفساد والتبعية ويخاف من داخله لو انتعشت فيه بعض أحلام التحرير والحرية والكرامة، هكذا هو العربي.
لا أعرف ما هي الأسباب الجوهرية التي أدت إلى هذه الانقسامات الحادة بين التيارات الأيديولوجية الثقافية العربية؟!.
ولا أعرف أيضاً لماذا استظل الكثير والكثير من المثقفين تحت..((عباءة الترويج)).. بأن النفاق والمداهنة والرياء والكذب هو المسوق الوحيد لبقاء المثقف تحت الأضواء؟!.
وهذا يشكل حراكاً معاكساً للمصالح الوطنية العربية. وكشفها..(الفايسبوك) والذي فعل فعله في زيادة تمزيق الأمة العربية. لقد كان وقود ورماد (الفيس بوك) هو الانقسامات بيننا، وسيطرة القمع الثقافي، والبطش السياسي، وذيوع الفقر في الأخلاق.
في حين أن المثقف كان وما يزال يعاني من ويلات..(الرفض من السلطة).. و.. (الظلم).. و..(التهميش).. و.. (الاستبداد).. و..(كتم الأفواه)..،. فهل نحن كمثقفين في حاجة إلى..(ميثاق شرف).. لوضع قواعد يحترمها الجميع السلطة والمثقف والمجتمع. حتى لا يسود القلق والتوتر والشك وعدم الثقة بينا.
ومتى يعبر الشارع العربي عن غضبه الشديد من المثقف؟!.
ومتى يحسن أداء النخبة المثقفة والسياسية والدينية؟. حتى نستطيع محاربة فسادها، الذي ربما يفوق فساد السلطة والمجتمع.
وهل..(النفاق).. و..(المداهنة).. و.. (الرياء).. و..(الكذب).. كانت أهم مفردات ثورات التغيير؟.
وهل نفتح شرايين الدم حتى يقف نزيف كل ذلك النفاق والرياء والمداهنة؟. والتي أوصلت بعض المثقفين إلى الحضيض !.
فهل تأتي لنا ثورات التوقعات بمستجدات لا نعرفها، تساعد على كشف المزيد من فساد المثقف العربي؟.
والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وساعة العرض، وأثناء العرض.
Zkutbi@hotmail.com
www.z-kutbi.com
مكة