ترددتُ قليلاً، وتأمّلتُ كثيراً، قبل أن أبدأ في الكتابة عن هذه المبدعة النشيطة الراكضة خلف عملها الثقافيّ الإعلاميّ بكل حيوية ومحبة وإخلاص وإتقان، وصاحبة الأخلاق الرفيعة والأسلوب العذب، صاحبة النوارس والأشرعة (ميسون أبو بكر)..
وفي الواقع، أنا الآن لا أكتبُ عن ميسون بذاتها، ولا عن الدور الذي تلعبه في إعلامنا الثقافيّ السعوديّ، إنما فقط أتناول كتابها، أو ديوانها الشعريّ الجديد لأقرأ عنوانه (نوارس بلون البحر) فقد استوقفني من جوانب عدة.. توقفتُ بداية عند هذا التكامل والانسجام بين عنوان هذا الديوان وعنوان زاويتها الأسبوعية، كل جمعة، في صفحة الرأي من صحيفة الجزيرة بعنوان (الأشرعة).. فإن كانت الأشرعة تحلّق من فوق المراكب سائرة بها فوق سطح البحر، فالنوارس تحلّق فوق البحر وفوق المراكب السائرة بذاتها - ومن حواليها - بحثاً عن أسباب وجودها وأسرار بقائها في هذا العالم.
فلماذا هي النوارس، في ديوانها، بلون البحر..؟
هنا أستعيد رؤية أقول بها وأكررها دائماً وأؤمن بها لدرجة الحكم على الأشياء من خلالها، وهي أن (المبدع الحقيقي هو من يقدّم إبداعاً يشبهه).. فتكوين الإنسان هو إبداع إلهيّ لا يضاهيه أيّ إبداع، ومنتهى الإبداع الإنسانيّ أن يقدّم المبدع عملاً يصل إلى درجة التشابه مع تكوينه المتميز عن غيره في أدقّ القسمات والقياسات والخطوات..
وأن تكون (النوارس) بلون (البحر) نفسه، الذي ترفرف فوق أمواجه، فهذا يعني أن ليس ثمة أيّ احتمال لطموحات تتجاوز الإبداع، فكلّ خروج على حدود البحر يصبح مشروعاً طالما أن النوارس تتخذ البحر لوناً لها.. وقضية (اللون) لها وقعها في الذائقة الشعرية والأدبية، قديماً وحديثاً، ولعلّ آخر ما رسخ منها في الذاكرة الإبداعية عنوان ديوان (واللون عن الأوراد) للشاعر الراحل الكبير د. غازي القصيبي - رحمة الله عليه.. وحتى لا أخرج مبتعداً عن ديوان (نوارس بلون البحر) إلى دواوين أخرى تقارب اللون بأبعاد مختلفة، سأورد هذا المقتطف لتبيان الحبكة الإبداعية في شاعرية صاحبة النوارس والأشرعة، وعلاقة اللون النابع من البحر بنوارسها وأشرعتها، تقول:
(ننسج أحلام طفولتنا
طوراً تأخذنا نحو البحر
ونعود نقصّ عجائب رؤيانا
عن سفن تتحدث عن حور البحر..
طوراً تلقانا أصحابَ الريح وقوس قزح
ترسمنا ألوانُ الطيف
أقماراً تلهو في أحضان الليل
وصلاة يتلوها الفجر..)
وتقول في وصف النوارس:
(والنوارس لا تشيخ
ولا تغادر عرينها
أعشاشها الموج
وقوتها اللؤلؤ والمرجان..)
فإن كان للنوارس (عرين) فهي إذاً تتخلق بأرقى ما للمخلوقات الهائمة في الغابات والفضاءات، من عنفوان وأنفةٍ يمتاز بها ساكن العرين دون سواه!
أمّا حين يكون الموج أعشاشاً، فتلك هي الحركة المتجددة في عمق السكون الأثير..!
فماذا عن (اللؤلؤ والمرجان) - ولا أدري لماذا لا بد من مصاحبة اللؤلؤ للمرجان! - وكيف يمكن أن نصفهما بالقوت..؟
أقولُ: لستُ بناقد حتى أعمل على تحليل العبارات في الكلمات المركّبة والمضافة، إنما فقط أتذوّق فيها متعة تشبه رياضة ذهنية تفتح أبواباً للتصوّرات..
على كلّ حال، فالديوان (نوارس بلون البحر) مليء بالتشبيهات المبتكرة والوصفيات المتباينة، جاءت على شكل قصائد نثرية وإيقاعية وعمودية، وكأنّ الشاعرة تريد أن تقول في كلّ شيء وهي تدرك تماماً أنها لا تريد أكثر من الإصغاء إلى كلّ شيء!
تقول ميسون في مخاطبةٍ ما:
(كم أنتِ غامضة ومدهشة كأعماق المحيط
وأنا الذي ألقيتُ أشرعتي بوجه الريح
وتبعتُ آمالي لتوصلني إليكِ..)
وبالعودة إلى بداية المقال، حين ذكرتُ بأنني (ترددتُ قليلاً) قبل أن أبدأ كتابتي هذه، فالسبب في ذلك التردد (القليل!) هو التأمّل (الكثير!) للمعنى الهادئ والعميق الذي يشي به العنوان (نوارس بلون البحر) فقد أعجبني جداً، لدرجة أن كلامي كله كان سيكون عن العنوان فقط (!) لولا أن القصائد استوقفتني ببعض مقاطعها المؤكدة لدلالات العنوان..
لأختم بقصيدة (لك) من ديوانها:
لكَ، للحروف الضاحكات كما الأماني..
الآسرات كحور جنّاتِ الإلهْ
لكَ ما ملكتَ
وما أردتَ من الحياةْ
هو ملكُ قلبكَ،
ما استبحتَ من القصيد..!
ffnff69@hotmail.com
الرياض