يستهل الراوي العليم والمفوه في رواية (المنهوبة) للقاص والروائي عواض العصيمي سرد تفاصيل حكاية الإنسان البسيط جداً، ليذهب بالمتلقي نحو إيماء عاطفي شيق يعكس لنا حقيقة العالم العفوي المتناهي في تفاصيله اليومية المتسارعة، والشغوف بتحولات فكره المتضارب لفرط المعاناة.
ومن هذا الاستهلال ندلف إلى حقيقة القصة، وعمق سردها الفاتن، إذ لا يتورع الشخوص عن حملهم صفات الكون كله، فأول هؤلاء المسكنون بوهج المعاناة النازفة هو (سلمان).. ذلك الشخص الذي بات يظهر على مسرح الأحداث مسلحاً بفطرية الرجل (الطائفي) نسبة إلى الطائف المدينة، وليست إلى فئة ما، إذ يتمايز حضوره القوي من نبع فكرة الكاتب الذي عني فيها كفصل من حكاية المدينة المترامية في تناقضاتها وتيهها وصور أهلها المعبرة عن تناقضات جمة منذ الأزل.
البطل المغلف بسيرة الفقد
(سلمان) الشخصية المحورية لا يلوي على شيء من مباهج الحياة، أو فسحة الأمل، فقد عني الكاتب في دفع الراوي لأن يحدد معالم هذا الشخص الذي تسكنه الحكاية، وتتشبث فيه المقولات، ولا يبارح نغمة الحياة المتناقضة في دنيا الطائف الذي تستشعر فيه نغمة المكان الفريد، ورائحة الجدل الوجودي بين أناس يتفرقون، فلا تلبث إلا وتجمعهم الحياة العجيبة، بكل ما لديهم من حكايات وتراسلات فكرية، وتماوجات أحلام تتناهبها ضواري الواقع الذي لا يرحم.
عُني الروائي عواض في ثنايا روايته (المنهوبة) بشكل واضح في اختيار لوحاته السردية في هذه الرواية، فتارة نراه يقرب لنا الصورة المكانية حتى كأنك تراه يجالس بطله (سلمان) الشقي لينهل من معين حكاية، فيصدر فيها من ورد السرد قِرَبٌ وجرار، بل لا يتردد في أن يطرق باب شقة (جبر) أو عايش بن فتة المضطرب السلوك ليفيض بما لديه من هجس يقارب الجنون، وغير بعيد عنهما تفجعنا حكاية (منازل) التي تثير في القلب ألم الفقد حينما يفترسها أحد القرود البشرية الشرسة، لتفقد على أثرها الوعي والحياة الهانئة.
فالروائي العصيمي يبرع حقيقة في وصف مشاهد الفتاة»منازل) فينقل لنا بكل أمانة واقتدار حالة المرأة بين رجال يغمرهم أسن الفحولة، فلا يجدون سوى الافتراس، بل يشعرنا الكاتب ومن خلال شخوصه ورواته أن الدنيا لن تخلو أبداً من ألوان كثيرة لحكايتنا الأبدية، فالكل يتفاعل معها بطريقته الخاصة.
فقد لا تتشابه الحكايات بالضرورة مع أي واقع آخر، بل يتقن الرواة نقلها بصيغ أخرى على نحو تصدى (جبر) لحكايته، و(سلمان) لفاجعته ومرضه، وسجن أبيه، وتشاغله بقماشة بالية يثير حولها مشهد الوضاعة والتيه وضيق الأفق في حياة هؤلاء البسطاء الذين تفاقمت صور يأسهم حتى باتت على نحو معانته من مرض الصدفية الذي بات ينسل جلده من بدنه رويداً رويداً كفعل صارخ يؤجج الأحداث ويوغل في شرح حكاية الإنسان المعذب.
بل نراه وقد عني بتفاصيل خيالية تمتاح من المنجز الحكائي ديباجتها الأصلية والفرعية حينما تتعاضد صورة القرد ببشاعته، مع فعل مشين مباغت في شقة (منازل) حتى باتت هذه الصور المتباعدة في تأثيرها وتكوينها العقلي تتناغم فيما بينها لتمنح القارئ فرصة التأمل الحقيقي بين حكاية ممكنة، وأحداث قد تتخلق من رحم الخيال المفضي إلى إجابات مقنعة وممكنة التصديق.
لحظات التنوير بطلها (جبر) أو (عايش بن فتنة)
لوحات التنوير الأخيرة في الرواية (شلة وخروا عنا) بطلها الحقيقي عايش بن فتنة، فعلى الرغم من تهادي الصور الثلاث إلى نهاية درامية مؤذية تتكشف على هيئة ومض يختطه مرزوق أبو ريال الذي يثرثر كثيراً ولا يطرق مسافات الفرح أو الفأل، في وقت تجتاح وكاد العضب مسلمات البحث عن الرزق في اصطياد الذئاب التي تسد حاجة بعض المنتفعين منها، فيما تتفصد أسرار الحياة الأليمة للغز الحكاية حينما تعرف الفتاة (منازل) المصابة في شرفها أن الرسائل التي تتوارد من الشخصية المحورية (جبر) هي مجرد أحاديث كان يتشدق فيها عايش بن فتنة الذي اخترع اسم (جبر) لمجرد العبث وتبرير تفاصيل غدره ومجونه ونزواته الكثيرة التي لا تحصى في عالم السرد.
رواية عواض العصيمي (المنهوبة) جاءت بهيئة لوحات متضافرة تؤكد البعد الجدلي للإنسان مع من حوله، حيث تنشأ غربة جديدة للشخوص رغم وجودهم في حاضن مدينة واحد لكن سبل الحياة متفرقة في فضاء السرد.
***
إشارة:
المنهوبة (رواية)
عواض شاهر العصيمي
أدبي حائل - الانتشار العربي - بيروت 2009م
تقع الرواية في نحو (210صفحات) من القطع المتوسط
تعد الرواية العمل السادس للمؤلف