لملمت بقية أشيائي على عجل، حزمت حقيبتي ثم خرجت مستعجلاً لألحق برحلتي وجدتني أقف بباب غرفتها وقبل أن أدق بابها عاد إلي رشدي.
تحتل غرفتها الصغيرة المعتقة برائحتها الزكية المؤلفة من أعشاب عطرية وزهور برية تحرص على حشوها في صدرها أو ربطها في أطراف منديلها الأصفر، مكاناً وسطاً ولا تخلو من بنيها وأحفادها اعتدنا أن لا نسافر أو نغادر إلا بعد المرور بها، تغضب كثيراً إن خالفنا هذه العادة، كانت تكره السفر وتخاف منه وتسألنا عن كثرة الأسفار، كنا نتلطف بالحديث معها ونتزوّد بنصائحها وحديثها الحميم. رغم ضيق غرفتها إلا أنها الملاذ لنا بحميميتها وفضائها المحبب لنا من جفاء بيوتنا الواسعة.
كانت آثار الشيخوخة قد رسمت خطوطها وندوبها قد حفرت على وجهها وسائر جسدها. يكاد منديلها الأصفر يتماهى مع شعرها الذهبي الذي أخذ لونه من صراع بياض شيبه مع صبغة الحنا.
في آخر أيامها أنشب المرض أظفاره بلا هوادة في جسمها الواهن من سفر السنين الطويلة التي برحتها في الحياة، تقاوم وحشية المرض لترينا أنها بخير رغم علمنا بحالها.
توافد أقرباؤها من كل مكان فقد علموا أنه الوداع الأخير، دخلت لألقي عليها النظرة الأخيرة وأطبع القبلة الأخيرة على وجهها الذي كان ملاذاً لي وباعثاً للاطمئنان. بدت خصلات شعرها الذهبي ووجهها الندي وقد رفعت عن وجهها الغطاء، وأنا أبكي صامتاً ورهبة الموت تفرض سكينة على المكان إلا من نحيب خافت وهسيس بكاء من كل زاوية في البيت.
ليلي الطويل يسيل سواده الكئيب فيطفي ما تبقى من ضوء آمال بائسة، يتيه في فجاج همي الواسعة، يلقم جروحي ملح الحقيقة، ماتت جدتي، وصمت الكلام في حلقي وجفت الدمعة في عيني حتى أغشتها، ونايات ليلي المهترئة تواصل عزف لحونها الجنائزية.
غادرت المكان جسداً مواصلاً طريقي أكرر هذا المرور، أصبح ديدناً لي، لم أعد استغربه، صرت أتعمده، وبقيت صورتها، صوتها، رائحتها، في المكان لم تبرحه كائنات تعيش معي أحس بها، أتحدث معها وأسمع صوتها وأشم رائحتها، لم يغب صوتها ولا رائحة أطيابها. إني أعرف صوت جدتي ورائحتها، فلا صوت يشبه صوتها ولا طيب يشبه أطيابها.
أبها - ص ب 189