«الشعور بالقيمة لا يتساوى مع تحقيق القيمة»
عندما نتحرك وفق شبكة من المسلمات التفكيرية وضمن نوعية من الأنشطة ونتأثر بسلم قيمي من النتائج فنحن نمارس واقعا ثقافيا بمنظورية خاصة تفرضها علينا تلك المسلمات والأنشطة والسلم القيمي للنتائج.
والمقولة السابقة قد تدخلنا إلى دائرة جدلية من يصنع الآخر،هل الواقع الثقافي هو الذي يصنع المثقف؟ أو أن المثقف هو الذي يصنع الواقع الثقافي؟.
و للسؤالين السابقين العديد من المتعلقات التي تختص بتحديد أولية التأثر والتأثير وأولوياتهما لعلاقة المثقف والواقع الثقافي، وآليات ضبط تقدير قيمة علاقة التأثر والتأثير بين المثقف والواقع الثقافي، وحدود علاقة التأثر والتأثير بينهما، وحدود استقلال كل منهما عن الآخر، وحدود ثورة أحدهما على الآخر.
و عملية تقويم علاقات التأثر والتأثير تتم من خلال الممثلات، باعتبار أن الكيانات الفكرية تحضر عبر ممثلاتها وليس من خلال محتوياتها المحضة،والاتفاق مع المضمون العام لهذه الفكرة يقودنا إلى تحرير منطقي لمسألة أسبقية الحضور على مستوى الممثلات الثقافية لكلا الطرفين؛ الواقع الثقافي والمثقف.
الواقع الثقافي كمنظومة تفاعلية وإجرائية هو عبارة عن مجموعة الممثلات التي تصوغها الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية لإنتاج نماذج تؤسس لمعايير وقيم الهوية الوطنية، والواقع الثقافي هنا وفق الوظيفة التي تؤديها ممثلاته هو»العقل العرفي» للمجتمع، وكما أن الواقع الثقافي كمنظومة تفاعلية وإجرائية هو مجموعة ممثلات لأنظمة الهوية الوطنية، فالمثقف بدوره عبر تاريخه التفكيري وإنتاجه الثقافي هو مجموعة ممثلات لممثلات الواقع الثقافي بما تتضمن من تعبير عن تصور الإحالة «نظم الهوية الوطنية».
وبذلك فالمثقف يتحرك وفق تأثره بممثلات الواقع الثقافي وهذا التأثر هو الذي يقصد به «المنظورية» أي أن معرفتنا الخاصة تتأثر بوسائط الواقع من خلال وجهة نظر معينة أو مجموعة من النوازع أو الدوافع السياسية أو الإيديولوجية.
وقد يرى البعض أن تأثر المثقف بالواقع الثقافي محدود بالتكرار والتقليد وليس بالإضافة والتجديد، وهذا الرأي لا يُحجم علاقة التأثر والتأثير بين المثقف والواقع الثقافي، بل يتناول فكرة التفاعلية بينهما وطبيعتها.
إن قيمة التفاعلية تُحقق على مستوى الأثر وليس على مستوى النوع والتقدير، وهذا لا يعني أن الأثر كفاءة مطلقة يقوم مقام قيمة النوع والتقدير، لكنه كفاية معقولة لتحديد سقف تقويمي للإنتاج ومعيار معقول لضبط حركة التغيير الثقافي وفق التجربة الثقافية الفردية أو الجماعية،لكن الأثر الثقافي لا يضمن بالضرورة توفير خبرة ثقافية،وهذا ما يفسر لنا غياب تأثير التجارب الثقافية لدينا كمصدر لتطوير الواقع الثقافي،كما أنه دليل على عدم جدية التجربة الثقافية للمثقف وأصالتها.
وكما أن القبول قيمة تفاعلية فالرفض أيضا قيمة تفاعلية،وكلتا القيمتين تنتج أثرا سواء على مستوى التقليد والتكرار أو التجديد والإضافة.
فرفض المثقف لممثلات الواقع الثقافي يدفعه إلى إنتاج مستويات ممثلات ثقافية تجديدية، وهي ممثلات تجديدية عادة ما تُنتج بناء على متطلبات الواقع الثقافي أو تمرده على الواقع الثقافي أو إحساسه بمسؤوليته في إيجاد عقلانية ثقافية لتطوير الواقع الثقافي أو من أجل ممارسة تجريبية لقالب ثقافي.
لكن هل تستطيع تلك الممثلات التجديدية بمستوياتها أن تؤثر على الواقع الثقافي وتعيد صياغة ممثلاته أو إعادة صياغة التصور الإحالي لممثلاته؟،أو بعبارة أخرى هل يستطيع المثقف عبر مستويات ممثلاته «التجديدية» أن يصنع الواقع الثقافي لدينا أو يعيد صياغته؟.
أعتقد أن هذا هو أهم محور في علاقة المثقف بالواقع الثقافي،وهو محور مهم لأنه ينقل المثقف من مرتبة المتأثر بالواقع الثقافي إلى مرتبة المؤثِر في الواقع الثقافي.
وهناك حسبما أعتقد سببان يعوقان انتقال المثقف من مرتبة المتأثر إلى مرتبة المؤثِر هما؛ طبيعة المثقف السعودي وخصائص الواقع الثقافي لدينا.
عندما نفكر في استخلاص خصائص الواقع الثقافي السعودي يمكننا أن نتوصل إلى ثلاث خصائص يتصف بها الواقع الثقافي لدينا هي:
*إن الواقع الثقافي السعودي هو واقع محافظ أي أنه عبارة عن منظومة قيمية وليس سلما قيميا، والقيمة في المنظومة تحمل بعدا إيديولوجيا،في حين أن القيمة في السلم تحمل بعدا مهاريا.
*الواقع الثقافي السعودي يعتمد على العشوائيات الثقافية ويفتقد التنظيمات الثقافية.
*الواقع الثقافي لدينا لا يمثل الرأي العام.
وهي خصائص من الصعب أن يجدد المثقف من خلالها؛ لعدم وجود تناسب بين قوة الطرفين؛قوة الواقع الثقافي وقوة المثقف،فالواقع الثقافي أقوى من المثقف بفضل ما يملكه من صفة رسمية وما يمثله من تصور إحالي وما يحيطه من مُسندِات معنوية ومادية،وتلكم أمور تٌحول المثقف المجدد إلى أقلية ثقافية نسبة إلى ما يمتلكه الواقع الثقافي من صفة وإحالة ومسندِات،مما يدفع المثقف المجِدد إلى الهروب من الواقع الثقافي إلى واقع افتراضي،وهذا الإحلال في ذاته إشكالية أخرى.
ولذلك فالواقع الثقافي لدينا لا ينتج صراعا ثقافيا لغياب القوة الثقافية المتوازنة سواء بين التصنيفات الثقافية مع بعضها البعض أو بين الواقع الثقافي والتصنيفات الثقافية،ولهيمنة ثقافة القطب الواحد.
كما أن تلك الخصائص بدورها تؤثر على طبيعة المثقف السعودي.
وعلى ضوء الخاصية الأول أصبح المثقفون السعوديون يمارسون بتطرف تصنيف بعضهم البعض، إما مثقف محافظ أو مثقف غير محافظ، وأصبح مصطلحا المحافظ وغير المحافظ يحملان سلما من التصنيفات الفرعية ما أنزل الله بها من سلطان، وأصبحت الوسطية الثقافية تعني عند الأعم الأغلب من المثقفين سلبية ثقافية وصاحبها لا يحمل موقفا ثقافيا أو استقلالية ثقافية.
ورغم ذلك فلم يستفد المثقف السعودي من هذا التصنيف الفكري في تأليف تنظيمات ثقافية أو مذاهب ثقافية تضمن له خبرة ثقافية يٌحرك من خلالها الواقع الثقافي ويطوره، وقد يكون عجز المثقف لدينا عن تأليف التنظيمات الثقافية رغم وجود التصنيفات الثقافية هو نتيجة غياب الرؤية الثقافية الموّحدة لأصحاب الاتجاه الفكري الواحد، وهذا الغياب مرجعه عدم أصالة الفكر الثقافي التجديدي للمثقف السعودي، فنحن لا يمكن أن نقول أن لدينا مثقف ليبرالي محض أو علماني محض أو وجودي محض أو حتى محافظ محض، والمزج بين الاتجاهات الفكرية عادة يضر بالتجربة الثقافية ولا ينفعها والضرر لا يشمل فقط خصائص الاتجاه الفكري بل يضر بمصداقية الموقف الفكري للمثقف وهو الأخطر لأنه يهدد أصالة الموقف الفكري للمثقف ويعيق تصميم إستراتيجية للتفكير الثقافي مما يؤثر على جديّة الإنجاز الثقافي وتأثيره على الواقع الثقافي
وغياب التنظيمات الثقافية أو استخلاص مذهب ثقافي من الاتجاه الفكري المخصوص.
أنا لا أنكر أنا لدينا تجارب ثقافية متعددة تكاد أن تمثل مسارا ثقافيا لكنها لا ترقى إلى مرتبة تمثيل التنظيم الثقافي.
والمسار الثقافي يختلف عن التنظيم الثقافي، فالتنظيم الثقافي هو الذي يُنتج التجارب الثقافية، في حين أن المسار الثقافي يتكون من تجارب ثقافية ناجزة.
فالمسار الثقافي يفتقد الوحدة العضوية المقصودة فهو يتكون كتحصيل حاصل وفق كليات ثقافية عرفية وبذلك فهو لا يهتم بتحقيق غاية تطوير أو تغيير ولا يتحرك وفق إستراتيجية فكرية ولا ينتج رموزا ودلالات، كما أنه خط مواز للواقع الثقافي، في حين أن التنظيمات الثقافية هي استراتيجيات فكرية تسعى إلى غاية وتنتج رموزا وتحقق خبرة ثقافية تسهم في تطوير الواقع الثقافي ولذلك تعتبر منهجا فكريا يضيف للواقع الثقافي ولا يعاضد جداره مثل المسارات الثقافية.
وغياب التنظيمات الثقافية التي يتحكم فيها المثقف أثرت على دوره كقائد للرأي العام، كما أن النخبوية القضوية التي حصر فيها المثقف فكره غيّبته كقائد للرأي العام، وهو ما عزّز هامشية الواقع الثقافي عند المتلقي وعند المثقف، وعزز هامشية المثقف بالنسبة للواقع الثقافي، وأضعف شعبية كليهما - المثقف والواقع الثقافي - عند المتلقي، كما أن غيابهما عن قيادة الرأي العام أضعفهما كمصدر لتشكيل الوعي الثقافي الجماهيري؛ لأن الوجه المرسوم بالدائرة يظل افتراضا تجريبيا!.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة