اتفق مؤسّسو الفكر اللغوي أن وظيفة اللغة أساساً هي الإبانة عن حقائق الأشياء وحصول المعرفة، ولكي تحقق الألفاظ وظيفتها التبليغية الإفهامية لابد من الاحتكام إلى نظام علاماتي تنضبط به شبكة التواصل بين الكلمات والمعاني، أي بين الدوال والمدلولات. يكتسي المعنى الداخلي بلباس الشكل اللغوي الخارجي الذي يعمل كوعاء يحتويه ويخرجه إلى الوجود الحسي ويدل عليه، فيتم بينهما اقتران دلالي ويتوالد التلازم بينهما من اطراد الاستعمال بين أفراد المجتمعات الإنسانية على مدى أزمان طويلة حتى يصبح الدال والمدلول وجهين لعملة واحدة لهما قيمة تبادلية متساوية، كما يرى دي سيسور. اللوغو عند أفلاطون هي مفردة منطوقة في وقت معين ولها معنى موحد، وهذا التوحد هو مبدأ المطابقة الذي يشكل ركناً مكيناً في أي تواصل لفظي. لولا هذا التلاحم التكاملي بين طرفي الدلالة لتعقدت السبل المؤدية إلى المعاني المختلجة في صدور الناس ولاستحال تحقيق التخاطب بينهم. يقول الشهرستاني في كتابه نهاية الإقدام في علم الكلام: (لولا مطابقة الألفاظ اللسانية معانيها النفسانية لم يكن كلاماً أصلاً).
مفردة (مطر) هي القالب اللفظي الذي يحتوي إدراكنا لذلك الماء الهابط علينا من السماء، كلمة ترتبط في أذهاننا بتلك القطرات التي تهطل من بين السحب سواء كانت غزيرة أم خفيفة، سواء أنعشت مزارعنا أم أغرقتها. نقول (مطر) ونحن نستدعي كل خصائصه وأوصافه، نعرف أنه حبات ماء من شأنها أن تغسل وتنظف، تنقل وتزيح، تكشف وتزيل. اتفقنا على ربط هذه الدلالة بذلك المدلول، كلنا اتفقنا ولن يختلف من بيننا اثنان على أن مفردة (مطر) تحيل إلى ذلك الماء.
في يوم التروية الماطر على جدة (الغير)، عرض ذلك الماء المنهمر من السماء خصائصه كاملة، إلا أنه أضاف إليها أبعاداً لغوية قوية. فمطر الأربعاء الحزين جعلنا نتوقف طويلاً عند مفردات عديدة كنا قد اتفقنا على مدلولاتها منذ زمن بعيد، فجاء لينفض عنها تراكم السنين ويجلو عنها طبقة التكلس التي علتها. التلازم بين المطر وخاصية الكشف ظهرت في حديث لخادم الحرمين الشريفين لصحيفة كويتية حيث أشار -حفظه الله- إلى أن: (السيول كشفت عما يجب أن نفعله لتحسين البنية التحتية)، كما كشفت لنا (أن المشاريع ضائعة وما بينت). في مقالات عديدة ظهرت مفردة الكشف مرتبطة بالعورة والسوأة، وبالفساد المتفشي وبالتعديات والتجاوزات. ويرى عبدالله السفر أن (المطر فضّاح)، لذلك فقد كشف عن (جوانب معتمة في الذهنية المجتمعية السعودية) كما يقول عبدالرحمن العرابي. وكتبت جهير المساعد: (إن الله قد منّ على جدة بالمطر كي تتنظف وتغتسل، فالسيل وحده القادر على أن يجرف المخبأ في بطن الأرض من التجاوزات والتراكمات).
فيما بعد المطر تأملنا ما كشفه لنا، فإذا الدنيا كما نعرفها، وإذا (العمار دمار والنور ظلام والحياة موات)، كما رأى محمود الصباغ، وإذا بجدة تظهر (غير) تماماً، لأنها كما يقول المثل الشعبي (من فوق هالله هالله ومن تحت يعلم الله). هذا الكشف الجبار القاهر لم يكن يقدر عليه صاحب سيف أو قلم، لذلك عنون حسن الظاهري مقاله بتحوير للبيت الشهير: (السيل أصدق أنباء من الكتب).
ثم جاء وقت الكشف عن المعاني المختبئة خلف الألفاظ، فمن بين الحطام طلع صوت المسؤولين يصف ما حدث بال (كارثة) لأن أمطار الأربعاء قياسية وغير مسبوقة من حيث الكمية، لكن البيان الملكي التاريخي الذي صدر في أعقاب التصاريح دحض ملاءمة ذلك المسمى وأوضح: (إنه ليحزن النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعاً لكارثة غير معتادة، فمثل هذه الأمطار تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها). بعد ذلك كان لابد من التفريق بين الكارثة الطبيعية وبين التقصير الذي يؤدي إلى الكوارث، لذلك استبدلنا وصف الحدث الجلل بمفردات أخرى مثل: نكبة وفاجعة ومأساة.
وكان الالتفات إلى مسمى جدة المتعارف عليه (عروس البحر الأحمر) ملحوظاً، فقد كشف السيل الجارف عن وجه مخالف تماماً لذلك المسمى فظهرت جدة عجوزاً شمطاء مليئة بالدمامل، ظهرت عارية وقد (انحسر فستانها عن جسد منهك ومترهل) (فهد السمان). ما عاد لجدة من اسمها نصيب فهي عروس في حداد وقد تحول (فستانها إلى كفن) (أنس زاهد)، بل إن نجيب الخنيزي يراها (أرملة تتشح بالسواد). إن جدة التي (سميناها عروساً وعاملناها كغانية).
(مسفر الغامدي) هي (عروس فض الفساد بكارتها) (إبراهيم الأفندي). ويقدم محسن السهيمي تفسيراً لما تلاقيه جدة التي ما عادت عروساً من إهمال، فهو إهمال (نابع من إحساس رجالها أنها امرأة توأد وتمنع من الميراث ومحتقرة مهددة بالطلاق دون مساءلة). في كل الأحوال تغيرت ملامح العروس وانتقض الميثاق اللغوي المتفق عليه بين المدينة والدلالة التي تشير إليها، لذا ينكرها الشاعر عبدالله محمد جبر في قصيدته (كائنًا من كان):
(أجدَّةٌ هذه.. إنّي لأنكرها وقد شمَمْتُ الردى في كل مُنعطفِ
عروسةٌ بِئسَ ما قالوا وما كذبوا وفوقها بَحر (سَلْحٍ) غير مُنْصرفِ).
وفي قصيدته (مَنْ ذَا تُرَى مِثْلُ عبدِاللهِ يُعْلِنُهَا؟) يصف الشاعر خالد محمد إبراهيم النعمان وجهاً جديداً للمدينة التي ما عادت عروساً:
شمطاءُ حدباءُ لا (مكياج) ينفعها مِنْ فعلِ بعضهمُ مَنْ لاذَ (بالصُّرَرِ)
كانت ستائرُهم تُخفي مَعايبَها في مسرح العَرْضِ والإعلان والغَرَرِ
وتتابعت مراجعة المفردات وطفت على السطح (بحيرة المسك) التي يتنافر مسماها مع القاذورات التي تطفو على سطحها وأسوأ الروائح التي تتصاعد منها، وفي مقدمتها (رائحة الفساد التي أزكمت الأنوف) (محمد الرطيان)، وترى أشجان هندي أن (المسك اسم فقط) دون مسمى، ويسميها عزيز حمزة البحيرة التي (ما هي مسك)، أما حليمة مظفر فتطلق عليها اسماً يناسبها تماماً وهو: (بحيرة الزفت). هي (نهر أسود) كما يسميها إبراهيم عالم، وكيل أمانة سابق، لكنها بحيرة للصرف ممنوعة من الصرف لأن الصرف الصحي بجدة لا هو صرف ولا هو صحي. اكتشفنا أن البنى التحتية التي نتحدث عنها ألفاظ لا تدل على شيء، فتلك البنى منعدمة في جدة، لذلك فإن التعبير الشائع (عودة الحياة إلى مجاريها) أصبح مستحيلاً في جدة حيث لا توجد مجارٍ ليعود إليها أي شيء!! ولأول مرة يكتشف الناس أن السدود ليست من زبر الحديد والقطران والنار، وإنما من التراب. نعم تراب يتحول إلى طين، (تراب هش يحمي مدينة العقم الترابي) كما يصفه أحمد بتاع البلادي.
ثم وضعت مفردة (العشوائيات) تحت المجهر، فحدثت معجزة لغوية جمعت بين النقيضين حين كشف المطر أن ارتجالية الإدارة المدنية أدت إلى (التخطيط العشوائي)، فالناس الذين سكنوا مناطق محظورة حصلوا على صكوك وقروض وخدمات وقامت من حولهم منشآت حكومية بل وفروع للبلدية. لذا رأى خالد السليمان أن (جدة نفسها عشوائية)، ويزيد خلف الحربي قائلاً إن ساكنها (مواطن عشوائي).
لذلك كان لا بد من وقفة حساب للقائمين على هذه (المدينة العشوائية)، وأول من أشارت إليهم أصابع اللوم والاتهام هم الأمناء. وشاع بين الكتاب والمواطنين مفردة (الخيانة) كبديل لمفردة (الأمانة)، وطالب بعضهم باستبدال مسمى أمين وأمانة إلى رئيس بلدية وبلدية، ثم تداول الناس على الجوالات هذه النكتة: دعا أهل جدة الله أن يرزقهم أميناً لبلدية جدة أميناً بحق فاستجاب الله لهم ورزقهم (أميناً فارساً معلماً نزيهاً منصفاً عادلاً فقيهاً)، وهي نكتة تضع علامات استفهام أمام الروابط الدلالية بين أسماء أمناء جدة وصفاتها. وحين بدأت لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الملك عبدالله عملها استعادت مفردة (مسؤول) مدلولاتها الأصلية، فالمسؤول ظل طويلاً يعتقد أنه صاحب الشأن الذي يحاسب ولا يحاسب، فإذا به اليوم يتعرض للمحاسبة والمساءلة، وما زال أمام كل مسؤول يوم حساب أعظم، يوم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (24) سورة الصافات.
شكلت أمطار جدة نقطة التحول في التعامل مع المسميات وكشفت قطراتها عن اختلال التوازن بين الألفاظ والمعاني وعن انفكاك وحدة الدليل اللغوي. فإذا كان اللفظ هو لباس المعنى، فقد تسللت نقائض المعاني إلى ثنايا أرديتها كما يتسلل الإرهابيون تحت عباءات النساء. لم تعد المقاصد ثابتة ساكنة، فلا العروس عروساً، ولا الكارثة كارثة، ولا السدود سدوداً. قوالب المسك والأمانة والصرف قد فرغت من مضامينها المتعارف عليها واحتوت نقائضها فسببت إشكالاً من اللبس وإرباكاً من ازدواج الدلالة.
ثم كان لا بد من مراجعة مدلولات بعض التعبيرات المجازية الشائعة، مثل مقولة: (آنستنا الرحمة)، وراح الكتاب يبحثون عن الرحمة في مظاهر العذاب، فرأى البعض أنها تكمن في الوقفة الملكية الحازمة في وجه الفساد، أو أنها في لطف الله أن السيل جاءنا والمدارس في إجازة، لكن محمد العباس يتتبع المفارقة الدلالية في مشهد الطفلة التي غلفها الطمي: (فللموت على ما يبدو ملمح رحمة على درجة من الغموض يصعب على البشر فهمها). وترى حصة آل الشيخ أن عبارة (رب ضارة نافعة) (هي جواز مرور لتراكم الضارات وهجرة النافعات). ويسخر محمد الرطيان من مقولة (الطاسة ضايعة) التي نصف بها كل كوارثنا ويكشف لنا أن (الطاسة لم تكن موجودة أصلاً لتضيع).
حين يتم تعطيل الحدث اللغوي عن إقامة هيئات المعاني في الأذهان تتناقض المدارك وتتداخل التصورات، ولا شيء يسترعي الانتباه قدر دلالة مفردة (غير) التي لاحقت جدة حتى ظن أهلها أنها غيرية التميز والأفضلية، فإذا الدنيا كما نعرفها، وإذا الغيرية إشارة توحي بالدونية والحرمان. لقد تراخت جدة (أم الرخا) كثيراً، لكنها حين جاء وقت الشدة صرخت قائلة: (أنا فاض بيه ومليت). جدة ليست غير، بل هي - كما يصفها الشباب على النيت - جدة غيرقت، أي غرقت. يقول سامي الجمعان:
(ما هي جدة.. لا ولا هي جدة غير
جدة تبكي وتستجير...)
ونحن سكان جدة ما عدنا نريدها (غير)، بل نريدها مثل غيرها من المدن المرموقة، لها بنية تحتية قوية، لها مجاري صرف صحي ومصارف سيول ومشاريع عديدة آن لها أن تظهر وتبان وعليها الأمان.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7712 ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة